اتفاقيات السودان – روسيا: الواضح فوق الأرض والمخفي في باطنها

مهند عوض محمود
الصفقة السودانية–الروسية الأخيرة ليست مجرد أوراق وُقِّعت في قاعة بروتوكول؛ إنها لحظة مفصلية تُعيد رسم خطوط التوازن على ساحل البحر الأحمر وفي عمق الجغرافيا السياسية للقرن الأفريقي .. السودان الذي ظل لسنوات ساحةً مفتوحة لتقاطع النفوذ الخارجي، يقرر اليوم أن يتحول إلى لاعب لا ورقة، وأن يستثمر موقعه وموارده ليصنع هامش استقلالية تفاوضية قلّ نظيره.
من الزاوية الاقتصادية، تُفتح أمام الخرطوم فرصة نادرة لإعادة هيكلة منظومة العوائد ؛ فالبروتوكولات التي شملت التجارة والبنية التحتية والطاقة والتعدين تحمل في طياتها إمكانية توفير تدفقات نقدية عبر عقود شراء طويلة الأجل وتمويل مسبق للموارد؛ وهو ما قد يخفف الضغط على العملة الأجنبية ويؤمن استقراراً نسبياً في بيئة تفتقر إلى اليقين. لكن هذه المكاسب تظل رهينة لطبيعة العقود؛ فالسؤال الأهم: هل نحن أمام شراكات تشغيلية واضحة الشروط والعوائد؛ أم أمام صيغ ضبابية تُقايض البنية التحتية بحقوق النفاذ والوجود العسكري؟ كلما كانت الصيغة محكمة ومحمية بحوكمة مالية صارمة، تقل المخاطر السيادية ويكبر العائد الاقتصادي.
سياسياً، الميناء الاستراتيجي على البحر الأحمر يتجاوز كونه مشروعاً لوجستياً؛ إنه رسالة في قلب الصراع الدولي على الممرات ؛ فمنح موسكو موطئ قدم بحري طويل الأمد يعني ببساطة أن معادلة النفوذ في البحر الأحمر لم تعد حكراً على القوى التقليدية، وأن السودان بات يملك ورقة ضغط تُمكّنه من التعامل مع العواصم الغربية من موقع المفاوض لا المتلقي.
أما عسكرياً، فإن هذه الاتفاقيات ستنعكس مباشرة على المشهد الميداني في السودان ؛ فإن القيادة العسكرية، وهي ترى شراكات استراتيجية بهذا الحجم مع روسيا، لن تتعامل مع التفاوض كخيار وارد، بل ستصر على الحسم العسكري ضد التمرد الإرهابي؛ كأنما الرسالة لأهل السودان عامة ولأهل دارفور خاصة: صبراً، فإن موعدكم النصر والانتصار ؛ فالاتفاقيات ترفع سقف التوقعات لدى الشارع بأن الدولة ماضية نحو إغلاق صفحة التمرد نهائياً، لا عبر الجلوس إلى الطاولات بل عبر تثبيت الشرعية بالسلاح.
ومن زاوية الأمن والدفاع، فإن دخول روسيا بثقلها الاستثماري يعني تلقائياً دخولها بثقلها العسكري ؛ فمن البديهي أن موسكو ستحمي مصالحها ومشروعاتها في الموانئ والتعدين والطاقة، وهو ما يفتح الباب أمام سباق تسلح لن يكون متكافئاً ؛ فروسيا دولة منتجة ومصدّرة للسلاح، بينما تقف مليشيا الدعم السريع الإرهابية محدودة الإمكانيات تعتمد على التهريب والسماسرة. هذه المعادلة سترجّح كفة الجيش السوداني وتمنحه قدرة أكبر على الحسم. والجدير بالذكر أن التعاون العسكري بين الخرطوم وموسكو ليس جديداً؛ فقد وقفت روسيا إلى جانب السودان طوال سنوات الحصار الأمريكي الأحادي وقدمت له السلاح والتقنيات رغم الضغوط؛ واليوم يتكرر المشهد لكن مع اختلاف نوعي: موارد السودان من الذهب والمعادن والطاقة أصبحت حاضرة في المشهد كحوافز إضافية تجعل التعاون أوسع وأعمق وأكثر تأثيراً.
وهنا يبرز تساؤل جوهري: هل قرار بنك السودان المركزي بحظر تصدير الذهب واحتكاره لنفسه مرتبط بهذه الاتفاقيات؟ وهل سيكون الذهب متوجهاً إلى روسيا سواء عبر تصدير مباشر أو كضمان لمشروعات؟ إن كانت الإجابة نعم، فإن قرارات البنك المركزي في هذه الحالة تكتسب بعداً استراتيجياً جديداً؛ فالذهب لا يعود مجرد سلعة تجارية أو أداة نقدية داخلية، بل يتحول إلى عملة سيادية موجّهة للتحالفات الدولية. عندها يصبح مفهوماً أن الخرطوم أرادت عبر هذا القرار أن تُمسك بمفاتيح المورد الأهم لتستخدمه في شراكاتها الكبرى، بحيث يتكامل ما هو ظاهر فوق الأرض من استثمارات وموانئ مع ما في باطنها من موارد ذهبية ومعادن، في معادلة واحدة تُعيد صياغة موقع السودان على الخريطة الدولية.
إقليمياً، هذه الاتفاقيات ستترك صدىً مباشراً في القرن الأفريقي ؛ فإثيوبيا التي تسعى جاهدة للبحث عن منفذ بحري ستقرأ التموضع السوداني– الروسي كخطوة تُعيد ترتيب التوازن على البحر الأحمر؛ إريتريا التي لطالما حاولت أن تقدم نفسها كقاعدة بديلة ستدرك أن منافستها المباشرة أصبحت أكثر صعوبة في ظل ثقل روسي متنامٍ في بورتسودان؛ أما جيبوتي، التي تستضيف قواعد عسكرية أمريكية وفرنسية وصينية، فستواجه معادلة جديدة، حيث يصبح للسودان موقع استراتيجي يمنحه وزناً موازياً في معادلة الممر البحري الأهم في العالم. بهذه الصورة، لا يتغير وضع السودان وحده، بل يعاد رسم خريطة النفوذ في المنطقة كلها.
الصفقة إذن ثلاثية الأبعاد: الذهب والطاقة كمورد اقتصادي؛ البحر الأحمر كممر جغرافي؛ وروسيا كشريك يبحث عن المياه الدافئة؛ إن أُحسن استثمار هذه الثلاثية عبر حوكمة دقيقة وتنويع للشركاء تحولت إلى رافعة لسيادة القرار السوداني؛ وإن أُسيء تدبيرها فإنها قد تفتح باب ارتهان جديد يُستهلك فيه المورد والممر معاً؛ ويبقى السؤال: هل ستتمكن الخرطوم من تحويل هذه الاتفاقيات إلى أدوات قوة تفاوضية تحفظ سيادتها؛ أم ينتهي الأمر بصفقة تمنح موسكو ما في باطن الأرض وفوقه بينما تستمر الضغوط الغربية وتزداد هشاشة الداخل؟



