رأي

إلى حبيبتي كارولينا…

الزبير نايل

الرجل ذو الملامح اللاتينية جالس تحت (عريشة) في قلب مدينة الفاشر بعد أن خَفَت صوت المدافع وارتفعت أعمدة الدخان كأنها شواهد قبور.. المدينة الصامتة تتكئ بيوتها المتصدعة على بعضها، تروي بصمتٍ شجاعتها وحكاية حصارها الطويل.
أخرج “خوان” هاتفه ثم بدأ يكتب رسالة إلى حبيبته كارولينا في كولومبيا على بعد قارات وبحار ومحيطات. وخوان خمسيني طُرد من الخدمة في جيش بلاده بعد أن ضُبط وهو يتاجر بالمخدرات. غادر بوغوتا بلا وداعٍ يحمل سمعته الملطخة إلى بلاد لا يعرف حتى موقعها على الخريطة. جاء إلى السودان مرتزقا يقاتل لا من أجل وطن أو عقيدة، بل من أجل المال.
خوان ضارب مدفعية طويلة المدى. عام ونصف وهو يقصف مدينة الفاشر بلا هوادة أو ضمير أو أخلاق.. لم يكن يسمع صراخ الأطفال ولا ارتجاف الحيطان لكنه فقط يسمع رنين التحويل البنكي، كان كل انفجار يعني له رصيدا جديدا.. القتل عنده تجارة مربحة والدم عملة صعبة.
تحسس جيبه ثم بدأ يكتب لحبيبته كارولينا:
“كارولينا.. أكتب إليك من بلاد بعيدة.. بلاد لا تشبه بلادنا في شيء.. جاءوا بي إلى أرض صحراوية مكشوفة تتخللها كثبان الرمال.. القتال فيها غريب حد الإرباك، ولك أن تصدقي أننا فشلنا أكثر من مئتي مرة في اقتحام مدينة عنيدة يحبها أهلها جداً اسمها الفاشر. كنت مرتكزاً في جهتها الغربية مع صديقي سانتياغو ابن مدينة كالي الذي استضافنا ذات مرة في منزله لو تذكرين، وبعد أن عجزنا حاصرناها من كل اتجاه ومنعنا عنها الغذاء والدواء والماء.
لكن ما أدهشنا هو شجاعة أهلها وجسارتهم رغم الحصار والرصاص المنهمر، فقد استماتوا رجالاً ونساء في الدفاع عن مدينتهم ببسالة ستُدرّس حتماً في كتب التاريخ. هم بسطاء ولا يملكون شيئاً لكن عزيمتهم تكسرت عليها نصالنا.. كنت عندما أرى طفلا أو شيخا أو امرأة تحمل رضيعها وسط الدخان تتحرك إنسانيتي قليلا وأشعر بشيء يخنق صدري… لكن حين يلوح لي طيف وجهك الجميل أقفز فوق عواطفي ومشاعري. وأقول لنفسي.. افعلها يا خوان.. افعلها لتعود إلى كارولينا فهي تنتظر منك المال والهدايا)..
كانت شمس ذلك اليوم أكثر وهجاً والمدينة تنزف بصمت ثقيل.. أشعل خوان سيجارة بيد مرتجفة وعلى مقربة منه امرأة تنبش بين الركام وفي يدها حذاء طفل مهترئ وبقايا دمية محترقة. التفتت إليه ورمقته بنظرة أشعرته بالخوف.. نظرة الذي فقد كل شيء لكنه أقسم على نفسه أن يسترد كل شيء..
همسُ المرأة كان يأتيه كأنين من عمق الأرض.. كانت كل كلمة تخرج من عينيها مشتعلةً غضباً. حاول ترجمة تلك النظرة:
” يا غريب الوجه واللسان ما الذي جاء بك إلى مدينتي؟ كيف تركت أهلك وبلدك وتجردت من إنسانيتك من أجل مال مصبوغ بدم أطفالنا وشيوخنا؟ يا هذا.. بأي قلب تبني صروح فرحك من رماد أحزاننا؟ تباً لك أيها المرتزق عديم الأخلاق والضمير..
لقد هدمتم دورنا، لكن لم ولن تهدموا إرادتنا بمشيئة الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى