علي عسكوري
لم أجد في اعلان نيروبي الذى وقعه ثلاثة من الأفراد، إثنين لهم قوات تحمل السلاح والثالث رئيس وزراء سابق (كما ظهر في التوقيع) في ١٨ مايو ٢٠٢٤م، شيئا جديدا يستحق التعليق… استوقفني فقط التناقض الساذج بين نقطتين وردتا في الإعلان.
جاء في الفقرة (ز) ” في حالة عدم تضمين هذه المبادئ في الدستور الدائم يحق للشعوب السودانية ممارسة حق تقرير المصير”.
وللقارىء أن يتخيل أن أشخاصاً يدعون إلى تقرير المصير يعودوا ليقولوا في الفقرة (٦): ” كما ندعوهم للوقوف ضد خطاب الكراهية والمساس بوحدتنا ولحمتنا الوطنية والنسيج المجتمعي وتفويت الفرصة على الدعوات الرامية الى تمزيق وتفتيت الوطن”.! تري هل هنالك دعوة لتفتيت الوطن أكبر من المطالبة بحق تقرير المصير! هل من وقع على هذا الاعلان قادة يمكن الركون لهم..! أم ترى انهم يدعون (الشعوب السودانية كما جاء في الإعلان) لتفويت الفرصة عليهم هم لأنهم هم وحدهم من يدعون إلى (تمزيق وتفتيت الوطن)!
سنتجاوز المصطلحات المطاطية التى وردت في الإعلان مثل (الشعوب السودانية، العلمانية، جذور الأزمة الوطنية) التى لم يوضح الإعلان شرحا لها! سنتجاوز أيضاً الوصائية المفرطة على شعب السودان التى مارسوها وتنضح بها مفردات الإعلان. فلو تحدثوا بإسم حركاتهم المسلحة وتحدث ثالثة الأثافي كفرد – لأن لقب رئيس وزراء سابق لا يمنحك ميزة مواطنة أكثر من اكأي مواطن آخر)، لو تحدثوا بهذه الصفات لما نازعناهم ولا اهتممنا بما اعلنوا، لكن ان تبلغ بهم الجرأة ان يتحدثوا باسم (شعوب السودان)، فعلى الاقل، على المستوى الشخصي انا انحدر من مجموعة هي مكون أساسي من (شعوب السودان) ولا أقبل مطلقا ان يتحدثوا باسمي او اسم المجموعة التى انحدر منها في اى امر، واعتقد ان هذا موقف الغالبية الكاسحة من الناس حتى فى دارفور وجنوب كردفان!
لكننا سنتجاوز كل هذه الوصائية لندلف الى مصطلح (تقرير المصير) الذى ورد في الاعلان.
كيف فات علي قادة (الشعوب السودانية) هؤلاء ان جنوب كردفان والنيل الازرق قد مارسا بالفعل تقرير المصير بواقع اتفاق جوبا (اكتوبر ٢٠٢٠). فتقرير المصير كما يقول فطاحلة القانون يمكن ان يكون داخل الدولة او بالانفصال والخروج منها (انظر مثلا ورقة كتبها البروف عبد الله النعيم والدكتور فرنسيس دينق ١٩٩٦). يضاف لذلك إن ما حققته دارفور في اتفاق جوبا للسلام يعتبر ايضا درجة من درجات تقرير المصير. فأي امتيازات سياسية او اقتصادية يحققها اقليم معين تعتبر درجة من درجات تقرير المصير.
ما يمكن فهمه من اعلان نيروبي ان الذين نصبوا من انفسهم كقيادات للشعوب السودانية دون تفويض من الشعوب يعنون بتقرير المصير الانفصال عن الدولة. عليه كانت الامانة والشجاعة تقتضي عليهم اعلان ذلك صراحة وليس الاختباء وراء مصطلح يحمل خيار البقاء في الدولة بترتيبات جديدة.
لقادة الشعوب السودانية هؤلاء يجب القول ان زمن ابتزاز الآخرين بالتلويح بتقرير المصير والانفصال قد فات، فالجميع يعلم ان ما ورد في الاعلان كان عبارة (طق حنك) لا قيمة له. فلا عبد العزير الحلو بمقدوره فصل جنوب كردفان ولا عبد الواحد قادر على فصل دارفور، اما (رئيس الوزراء السابق) فقد كان أطرش في زفة قادة الشعوب السودانية.
ما لا يعلمه قادة الشعوب السودانية هؤلاء ان بعض سكان المناطق التى لا توجد بها حركات مسلحة بل تقاتل الآن دفاعا عن بقاء الدولة، صاروا يطالبون علنا بالانفصال عن الدولة من دون قتالها أو منع الغذاء عن السكان! ولذلك على قادة الشعوب السودانية هؤلاء ان يتركوا الوصائية ويلحقوا بركب الدعوات السلمية سواء ان كانت للانفصال او الحكم الذاتى او الفدرالية!
ما يتوجب على هؤلاء فعله هو مشاركة الشعب السودانى وقواته المسلحة والمستنفرين معركتهم ضد المليشيا حفاظا على الدولة، فإن انتصرت المليشيا سيكونوا هم اول من سيسحلون وستدمر المليشيا مجتمعاتهم لتصبح أثرا بعد عين، ودونهم ما يجري في مواقع كثيرة. سيكون من السذاجة المفرطة ان اعتقدوا ان المليشيا في حالة انتصارها ستحقق لهم مطالبهم. على العكس تماما سيكون سحقهم واستئصال شأفتهم في قائمة أولويات المليشيا قبل المجموعات التى لا تحمل سلاحا. هذه حقيقة لا تحتاج ان يسافر الانسان لنيروبي لمقابلة سائح سياسي اصبح ناطقا رسميا لقائد مليشيا لا يكاد يفك الحرف!
الصحيح ان يأت قادة الشعوب السودانية هؤلاء الى داخل السودان ويطرحوا ذات الاجندة على الناس ويدعوا لها بصورة سلمية، ان قبلها الناس كان لهم ما ارادوا، وإن لم يقبلوها عليهم الانصراف لحياتهم والتوقف عن محاولة فرض رؤاهم وقناعاتهم على الآخرين بالقوة.
في بلدان عديدة طرح قادة سياسيون على شعوبهم فكرة الانفصال من دولهم واخضعت دعوتهم للتصويت ولم تنجح فانصرفوا لحالهم ولم يذهبوا لحمل السلاح، تلك هى الديمقراطية التي يجب أن نؤسس لها.
تعالوا واطرحوا العلمانية او الانفصال علي الشعوب السودانية ربما يكون لكم مناصرين كثر يغنوكم عن حمل السلاح. لقد جربتم العنف لعقود ولم تجنوا شيئا، حاولوا هذه المرة طريقاً مختلفاً إن كنتم تقبلون الاحتكام للشعوب السودانية!