يوسف ماجد يوسف
يقف السودان في لحظة حاسمة. فقد أوجدت التصريحات الأخيرة الصادرة عن حملة ترامب نافذة دبلوماسية نادرة، وهي نافذة يمكن أن تعيد تشكيل علاقة السودان بالولايات المتحدة إذا تم التعامل معها بانضباط ووضوح ورؤية استراتيجية. مثل هذه الفرص لا تتكرر كثيراً، وفي حالة السودان فإن كل فرصة ضائعة كانت تحمل عواقب ثقيلة على مستقبل البلاد. ولتجنب تكرار الأخطاء السابقة يجب على السودان أن يستعد ليس فقط للتعامل الخارجي مع الولايات المتحدة، بل أيضاً لبناء انسجام داخلي بين الفاعلين السياسيين والمؤسساتيين والمجتمعيين. ومن دون هذا الانسجام ستضيع حتى أكثر اللحظات الجيوسياسية ملاءمة.
يوفر علم السياسة إطاراً مهماً لفهم أهمية الانسجام الداخلي. يشرح مفهوم اللعبة ذات المستويين الذي طرحه روبرت بوتنام أن المفاوضات الدولية ليست خارجية فقط لأنها في الوقت نفسه مفاوضات داخلية بين أطراف وطنية متعددة. الدولة التي تعاني من الانقسام الداخلي تصبح ضعيفة خارجياً لأن القوى الخارجية ترى فيها حالة عدم يقين واستعداداً للاستغلال. أما الدولة الموحدة أو التي تتمتع على الأقل بتوافق حول أولوياتها الأساسية فتفاوض من موقع قوة. ويقدم المغرب مثالاً جيداً للمقارنة إذ إنه رغم التعقيدات الداخلية، فإن المؤسسة الملكية والوزارات الاقتصادية والأجهزة الأمنية تتشارك رؤية موحدة للسياسة الخارجية. وقد سمح هذا الانسجام للمغرب بالتفاوض على اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة من موقع قوة استراتيجية، ما جذب استثمارات واعترافاً دولياً مع الحفاظ على السيادة. ويمكن للسودان أن يستخلص دروساً مهمة من هذا النموذج. فالانسجام ليس رفاهية بل شرط أساسي لأي تفاوض ناجح.
ويضيف علم نظرية الألعاب طبقة ثانية من الفهم الاستراتيجي. فهذه النظرية تشرح كيف يتصرف الفاعلون العقلانيون في بيئة تتأثر فيها نتائج كل طرف بخيارات الطرف الآخر. ويعد مثال معضلة السجين من أشهر النماذج التي تبين أن التعاون المتبادل يمكن أن يحقق أفضل النتائج، إلا أن انعدام الثقة يدفع الأطراف غالباً إلى نتائج أقل فائدة للجميع. وبالنسبة للسودان فإن الدرس واضح. إذا دخل السودان في نقاش مع الولايات المتحدة بمواقف متناقضة ورسائل غير متسقة وأهداف غير واضحة، فإن واشنطن ستفرض شروط التفاوض وحدها. وفي هذه الحالة يكون السودان قد خسر فرصة التعاون من الأساس. لكن إذا وصل السودان بموقف وطني موحد ورؤية واضحة لما يطلبه وما يقبل به وما يرفضه، فإن الولايات المتحدة ستصبح أكثر استعداداً للتعاون، وبالتالي سيتحول التفاوض إلى عملية رابحة للطرفين. كما أن نموذج الألعاب المتكررة في نظرية الألعاب يقدم درساً إضافياً. فالدول لا تتفاوض مرة واحدة، بل تدخل في تفاعل طويل يمتد لسنوات وربما لعقود. وهذا يجعل التعاون طويل المدى أكثر جاذبية من المكاسب السريعة. وقد أتقنت الأردن هذا النهج من خلال بناء علاقة ثابتة وقابلة للتوقع مع الولايات المتحدة على مدى ثلاثين عاماً، ما جلب لها دعماً اقتصادياً واستراتيجياً مستمراً. وينبغي على السودان أن يتبنى منظوراً مماثلاً يتجاوز التفكير في المكاسب القصيرة ويعيد بناء موقع السودان كشريك موثوق.
ولا يتحدد وضع السودان الاستراتيجي من خلال الولايات المتحدة فقط. فالسعودية أصبحت اليوم أحد أهم الفاعلين الخارجيين في المشهد السياسي والاقتصادي السوداني، ويجب التعامل معها بجدية تامة. فالسعودية تمر بتحول سريع بفضل رؤية 2030 التي جعلتها دولة تقنية تعتمد على الأداء وتقييم النتائج والمؤسسات القادرة على التنفيذ. لم تعد المملكة تعمل وفق النموذج التقليدي الذي يقوم على الوعود السياسية العاطفية أو الدعم المالي المفتوح. بل أصبح تعاملها يقوم على العائد الاستثماري والمواءمة الاستراتيجية وموثوقية الشركاء. ويمثل هذا التحول فرصة وتحذيراً في آن واحد بالنسبة للسودان. فالفرصة تكمن في رغبة السعودية في شراكات إقليمية مستقرة في مجالات الأمن الغذائي والطاقة واللوجستيات والتعدين، وهي مجالات يمتلك السودان فيها إمكانات كبيرة. أما التحذير فيكمن في أن السعودية لن تستجيب بعد الآن للوعود الفضفاضة أو الخطاب السياسي غير المدروس. لذلك يجب أن يقدم السودان للمملكة مشاريع واضحة وقابلة للتمويل وآليات حوكمة شفافة وخطط تنفيذ واقعية وشركاء قادرين على التنفيذ. وقد تمكنت مصر والأردن والمغرب من جذب مليارات الدولارات من الاستثمارات السعودية من خلال تقديم مقترحات منظمة ومبنية على أسس تقنية، وليس من خلال الخطاب السياسي. وإذا استمر السودان في الاعتماد على الأساليب القديمة فإنه يخاطر بفقدان موقعه تماماً.
ولتحويل هذه اللحظة إلى اختراق حقيقي، يجب على السودان تطوير استراتيجية وطنية واضحة تقوم على الانسجام الداخلي والوضوح الخارجي. داخلياً، يتطلب الأمر توافقاً بين الفاعلين السياسيين والخبراء والمؤسسات الاقتصادية والمجتمع المدني حول رؤية موحدة. ويحتاج السودان إلى تحديد واضح لما يريده وما يقبل به وما لا يمكنه التنازل عنه. أما خارجياً، فيجب تقديم رؤية اقتصادية واقعية وقابلة للتنفيذ لكل من الولايات المتحدة والسعودية، تشمل الاستثمار في الزراعة والطاقة المتجددة والتعدين والبنية التحتية والاقتصاد الرقمي. ويجب أن يكون السودان واضحاً أيضاً بشأن أهمية الاستثمار في رأس المال البشري. فلا يمكن لأي عملية إعادة بناء أن تنجح من دون الاستثمار في الشعب السوداني عبر المنح الدراسية والتدريب المهني وبرامج تنمية القطاع العام وإعادة دمج الكفاءات المهاجرة ودعم رواد الأعمال. وقد نجحت دول مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة في تحقيق تحولات جذرية عبر هذا النهج الذي يركز على الإنسان قبل الموارد.
كما يجب أن يكون السودان مستعداً لتقديم تنازلات مدروسة عندما تكون تكلفتها منخفضة ومردودها عالياً. فالتعاون في مكافحة الإرهاب أو أمن البحر الأحمر أو تبادل البيانات التقنية يمكن أن يفتح أبواباً لشراكات طويلة المدى دون المساس بالسيادة الوطنية. وقد نجحت دول مثل كينيا والأردن في بناء علاقات قوية مع القوى العالمية عبر هذا النوع من التعاون، بشرط أن يكون جزءاً من استراتيجية وطنية واضحة وليس خطوة ارتجالية.
يقف السودان اليوم أمام خيار حاسم. يمكنه الاستمرار في النهج القديم الذي يقوم على ردود الفعل العاجلة والانقسام الداخلي والاعتماد على حسن نية القوى الخارجية. أو يمكنه اعتماد نهج جديد يقوم على الانسجام والانضباط والرؤية طويلة المدى. وإذا وصل السودان إلى طاولة المفاوضات مستعداً ومسلحاً برؤية وطنية واضحة ومستنيراً بالأدوات التي تقدمها العلوم السياسية ونظرية الألعاب ومواكباً للتحول التقني والمؤسسي في كل من الولايات المتحدة والسعودية، فإن هذه اللحظة قد تتحول إلى فرصة لإعادة بناء المؤسسات وجذب الاستثمارات ووضع السودان على خريطة النفوذ العالمي. أما إذا لم يستعد السودان جيداً، فسوف يستعد الآخرون نيابة عنه، وسيجد السودان نفسه مرة أخرى غائباً عن صياغة مستقبله.
