في منتصف مارس 2025، فوجئ المواطنون في منطقة العزبة بمدينة بحري، وعلى نحو مُباغت، بالجرّافات والآليّات الثقيلة وهي تدكُّ منازلهم بما فيها من أثاثٍ وممتلكات، وتُسوِّيها بالأرض دون إنذار سابق.
وفي مطلع يوليو 2025، أعلن جهاز حماية الأراضي بولاية الخرطوم اكتمال إزالة «التعدّيات العشوائية» بمربعي 18 و19 بأبوسعد في محلية أم درمان. وقال مدير جهاز حماية الأراضي وإزالة المخالفات بالولاية عبد العزيز عبد الله، إنّ الإزالة شملت 806 منازل بمشاركة القوات النظامية والنيابة والمهندسين والموظفين، تنفيذاً لتوجيهات الولاية بإزالة «السكن العشوائي» بسبب «المُهدِّدات الأمنية والظواهر السالبة المُرتبطة به».
وفي 12 يوليو، أزالت قوات طوفٍ مُشتركٍ تابعٍ لمحلية شرق النيل المساكن العشوائية بسوق 4 بحي البركة (كرتون كسلا).
وفي 21 يوليو، قالت المنصة الرسمية لولاية الخرطوم، إن وزير الدفاع الفريق حسن داؤود كبرون قد سُلِّم قطعته بمربع 19 أبوسعد عبر ممثله، ومن ثم دُقّت الأوتاد بمُشاركة المساحة وجهات الاختصاص بوزارة التخطيط العمراني.
وبحسب جهاز حماية الأراضي وإزالة المخالفات، فإنّ ولاية الخرطوم أكملت تنفيذ 60% من إزالة السكن العشوائي في الولاية حتى 25 يونيو الماضي، ضمن خطة مدروسة للحصر والإزالة في جميع محليات الولاية، شَملت منطقة الخيرات بمحلية شرق النيل ومربع 19 الحلفايا ومربع 13 مطري الحلفايا ومنطقة العزبة بمحلية بحري، ومناطق مانديلا وغبوش بجنوب الخرطوم وحتى منطقة جبل أولياء. في ولاية الجزيرة
وفي ولاية الجزيرة، نفّذت لجنة إزالة السكن العشوائي والتعدّي على الأراضي الحكومية ومحاربة الظواهر السالبة بالولاية، حملةً لإزالة عدد من المباني والحيازات، منها مبانٍ بقرية عبد الله المصري شرق الولاية، و25 موقعاً بسوق مدني الكبير، ومبانٍ في حي الزمالك وفريق شوك ومنطقة دردق. وقال مدير جهاز حماية الأراضي الحكومية بالولاية، عز الدين أبوبكر، إنّ الحملة حقّقت أهدافها في تنظيف حي الزمالك وفريق شوك ودردق وشارع الزمالك بشرق مدني من كلّ مظاهر السكن العشوائي والتعديات.
ودعا تحالف مزارعي الجزيرة في بيان مزارعي الجزيرة إلى مقاومة قرار إزالة السكن العشوائي بالولاية، وحذّر من مغبّة إصابة العملية الإنتاجية في مقتل، وتدمير جداول الإنتاج، فـ«لا يمكن أداء العمليات الإنتاجية في مشروع الجزيرة والمشاريع الزراعية الأخرى دون هذه المجموعات السكانية التي توطّنت في الجزيرة والمناطق الأخرى بالميلاد»، واصفاً الولاية بأنها «موقع مناسب لإنقاذ السودانيين وحمايتهم وفق ترتيبات وإجراءات تجعل من المنطقة ذات المواصفات القبَلية الإيجابية موقعاً مُلائماً تنطلق منه عملية إعادة بناء السودان، خاصة أنها شهدت خلال المائة عام الماضية، تمازُجاً وتداخلاً عِرقياً متنوّعاً ظلّ معصوماً على الدوام من النزاعات ذات الطابع العِرقي».
وعدَّت مركزية مؤتمر الكنابي قرارَ السلطات بإزالة السكن العشوائي في الجزيرة تطوراً خطيراً، يستهدف المواطنين على أساس اللون والعِرق، وأكّدت رفضها قرار حكومة ولاية الجزيرة بتاريخ 19 يونيو 2025م.
ووصف الباحث والناشط في قضايا العمال الزراعيين وسكان الكنابي، محمد علي مهلة، في حديثه لـ«أتَـر» قرارات الإزالة بولاية الجزيرة بأنها تنسجم تاريخياً مع الرغبات والنوايا في إزالة العشوائيات داخل المدن في بحري والخرطوم وأم درمان ومدني، وترتبط ارتباطاً وثيقاً مع مسألة الأمن. وأضاف أنّ ما حدث للكنابي في الجزيرة يرتبط بتداعيات الحرب. وقال إن نحو 50 كمبو تعرَّض للحرق والانتهاكات والتهجير القسري «تحت مظلة المتعاونين». ويخشى مهلة من أن تمتدّ الإزالات من أطراف المدن إلى عمق الجزيرة وأطراف القرى وفوق الترع، حيث تُشاد الكنابي.
ويصف المهندس المعماري ومخطِّط المدن وليد الريّح، قرار حكومة ولاية الجزيرة بإزالة السكن العشوائي، بالمُجحف. ويقول في حديثه لـ«أتَـر»: «المؤلم أنّ سكّان الكنابي ظلّوا دوماً على هامش المجتمع منذ قرن، لكنهم ظلوا في صلب الإنتاج الوطني. لقد ساهموا في الاقتصاد، وصمدوا في الهامش، والتحدي بعد توقّف الحرب ليس فقط في إيقاف التهجير القسري، إنما في إعادة تعريف المُواطَنة والتخطيط والاعتراف القانوني بسكان الكنابي، باعتبارهم يشكلون مجتمعاتٍ مدنية ذات حقوق، وإيقاف جميع أشكال الإزالة العمرانية، وفتح تحقيق دولي مستقلّ في الانتهاكات المؤلمة بحقّ سكان الكنابي وإعادة دمجهم في خطط التنمية والإسكان والتوظيف، فالعدالة لا تُقاس بارتفاع البنايات، إنما بكرامة البشر الذين يَسكنونها».
حرب ضدّ العشوائي لقد جهدت الحكومات السودانية المُتعاقبة، في إزالة السكن العشوائي بالعاصمة التي شهدت موجات من ذلك الجهد؛ لكنها جاءت هذه المرّة معزَّزةً بالحالة الحربية لمدينة الخرطوم ورفيقتها ود مدني، إذ أصبحت المدينتان ولمُددٍ متطاولة ساحات للاشتباك بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع خلال حرب أبريل. ولم تمضِ شهور عدة بعد استعادتهما إلى سيطرة الجيش حتى أنشبت السلطات مخالبها على السكن العشوائي.
في لباس حربي، ظهر عبد العزيز عبد الله أحمد، مدير جهاز حماية الأراضي وإزالة المخالفات بولاية الخرطوم، في لقاء بقناة النيل الأزرق، قائلاً إنّ الحملة التي جرت أخيراً ضدّ السكن العشوائي هي جزء من الحرب الحالية، إضافة إلى ضرورة إرجاع الحقوق إلى حاملي شهادات البحث، الذين ظلّوا يحملونها لعشرات السنوات دون أن يتسلّموا أراضيهم، قائلاً إنّ أصحاب المساكن المُزالة بشرق كوبري الحلفايا مربع 19 قد عُوِّضوا من قَبل لكنهم لم ينتقلوا، وأنّ هناك تعديات على الشوارع والمدارس والميادين في العزبة جرت إزالتها لأنّ المنطقة مُخطّطة. وأضاف أن فرقاً مُكوَّنة من الشرطة والقوات المسلحة والنيابة هي التي نفذت الحملات، ضمن خطة لحصر السكن العشوائي وإزالته بمحليات الولاية جميعها.
وفي البرنامج ذاته، قال المهندس وليد عبد الله أحمد علي، مدير فرع حماية الأراضي بمحلية بحري، إنهم وجّهوا جهودهم في هذه الفترة، إلى إزالة مسبّبات «الحذر الأمني والاجتماعي للمواطن» – بحسب وصفه – وتهيئة العاصمة لعودة المواطنين «لتكون آمنة»، وليمارسوا حياتهم على نحو طبيعي، وأضاف أنه جرت إزالة محلّات تجارية غرب مصفى الجيلي، وقال إنها تنامت بسبب مافيا الأراضي والبيع والتعديات؛ وأضاف أنهم أزالوا السكن العشوائي بالعزبة الذي اعتبره «من مسبّبات الحذر الأمني»، مؤكّداً اتجاههم نحو الأسواق الكبرى والصغرى والأحياء في محلية بحري. وحذّر عبد الله المواطنين الذين لا يَملكون أوراقاً رسمية تُثبت ملكيتهم للمنازل التي يقطنونها، وحثّهم على ترحيل ممتلكاتهم من مناطق الإزالة.
عمل الجرّافات خلّفت عمليات دكّ بيوت المواطنين غبناً واسعاً وانتقادات عميقة لسياسات هدم منازل المواطنين والأسواق في توقيتٍ تَلى الحرب مباشرةً، وطرح أسئلة حول رؤية الدولة لمسألة الإعمار وتقويض سكن المواطنين بدلاً عن تعويضهم، والآثار الاجتماعية المعقدة لتشريد السكان.
يروي مواطن لـ«أتر»، وهو من ساكني شرق النيل، أن والده قد اشترى قطعتهم حيازةً من لجان وعمدة المنطقة قبل الحرب، بوعد أن الخدمات ستصل إلى المنطقة. ثمّ نزح هو وأُسرته إلى القضارف في بداية الحرب، وعادوا بعد أن استعاد الجيش الخرطوم، لكن خلال عامي القتال انضم كثيرٌ من أبناء المنطقة إلى قوات الدعم السريع، وصُنفت منطقتهم «كحواضن اجتماعية كما يُسمونها»، على حد تعبيره. وفي مايو الماضي، فُوجئوا بتصنيف المنطقة سكناً عشوائياً، وصدور قرار بإزالتها، وهو الأمر الذي حدث فعلاً. يقول المواطن: «للأسف الآن هُدت بيوتنا فوق رؤوسنا».
يصف عبده إسحق من مواطني حي العزبة بحري، شمال الخرطوم، حال المنطقة بعد تعرّض منازلها للإزالة بـ«بالمأساوي»، ويُخبر «أتَـر» بأنّ جرافات جهاز حماية الأراضي أزالت منزله ومنازل جيرانه الذين قطنوا في المنطقة لأكثر من ثلاثين سنة. ويقول: «جاء الموظّفون في أزياء عسكرية يحملون البنادق والهراوات، تتقدّمهم الجرّافات، هدموا بيوتنا دون إخطار مسبق، تشرّد الناس وهاموا في العراء وضاعت ممتلكاتهم تحت الأنقاض».
ويُخبر هاشم عثمان في حديثه لـ«أتَـر» ويقطن بحري القديمة، أنّ اسم العزبة، التي استعادها الجيش في 30 يناير 2025، يعود قديماً إلى الفضاء الجغرافي الواسع شرقي سوق بحري الكبير ويضم حالياً مدرسة وجامع العزبة في بحري القديمة، وامتدّ الاسم حتى مناطق «الأحامدة» وشمل المساكن المؤقّتة والمُشادَة بالرواكيب والجالوص والمجاورة للمنطقة الصناعية ببحري والتي يقطنها العمّال، وتُعرف بـ«عزبة الطراوة»، وقد أزالتها السلطات في تسعينيات القرن الماضي، ضمن المخطّط الهيكلي للعام 1991 لوزارة الشؤون الهندسية في ولاية الخرطوم، بسبب الهجرة المتزايدة والنزوح المستمر؛ والذي ابتدره الوزير شرف الدين بانقا، لتتحوّل منطقة العزبة برمّتها شرقاً، إلى جوار منطقة كافوري المُصنَّفة ضمن أكثر الأحياء رقيّاً في مدينة بحري.
ويقول تجّارٌ بسوق مصفاة الجيلي هُدّمت محالّهم التجارية، استطلعتهم «أتَـر»، إنّ أوضاعهم قانونية، ويتَّجهون لمُقاضاة سلطات ولاية الخرطوم، وإنّ متاجرهم مُرخّص لها بالعمل من قِبل محلية بحري. وطالب التاجر علي الماحي في حديثه لـ«أتَـر» بتعويضات مُجزية عن «محالّهم التي سُوّيت بالأرض دون وجه حقّ وعن الأرض نفسها».يَقول المعماري وليد مبارك الريّح، إنّ الخرطوم منذ لحظة تأسيسها في العام 1821 على يد الحكم التركي المصري، لم تُبْنَ بوصفها حاضرة مدنية متكاملة، إنما كانت نقطة عسكرية على ضفة النيل الأزرق، واختِير موقعها لأسباب استراتيجية أكثر من كونها استجابة لحاجات سكنية أو اقتصادية، وأصبحت بعد إعادة تأسيسها وتخطيطها، فعلياً بعد الاحتلال البريطاني للسودان عام 1898، نموذجاً للتخطيط الاستعماري القائم على التمييز الطبقي والإثني، ووفق نموذج مدن الإمبراطورية البريطانية، فقُسمت المدينة إلى مربّعات سكنية وشوارع مستقيمة بنظام «الشبكة». يقول الريح: «خُصِّص قلب الخرطوم للسلطات البريطانية والمصالح الإدارية، بينما أُبعد السكّان الأصليون نحو أطراف المدينة في مناطق محدّدة مثل حي الديوم وحلة حمد، وعبَّر المهندس البريطاني الشاب ماكلين (McLean) عن امتعاضه من الظروف الصحية المتردية في مساكن السودانيين، خاصة في ما عُرف لاحقًا بـ«الديومات»، وكان من الملاحظ وقتها انعدام وجود دورات المياه داخل المنازل، واعتماد السكّان على قضاء الحاجة في الخلاء، وهو أمر كان شائعاً في معظم أرجاء السودان حينها. رأى ماكلين أن هذه الممارسات تشكّل خطراً صحّياً على المدينة المُخطَّطة، ولذلك اقترح فصل الديومات عن بقية الخرطوم بسور مادي».
وبدلاً من تنفيذ ذلك المقترح الحادّ – يضيف الريح – قُرِّرَ إنشاء محطة السكّة حديد المركزية مشروعاً بديلاً عن السور، لتقوم عملياً بالدور نفسه: فصل السكّان الأصليين عن الخرطوم المُخطَّطة. وبُنيت رئاسة السكّة الحديد في موقعها الحالي، وشُيّد شارع فاصل ببوابة لا تزال موجودة إلى اليوم، تربط ما بين قلب الخرطوم المخطّطة وحي الديومات الشعبي. بهذا، أصبح الخطّ الحديديّ ليس بنية تحتية فقط، إنما حدّ حضري كذلك بين عالمين: عالم المستعِمر والموظّف، وعالم العامل والسوداني العادي.
سياسات استثمارية ويرى الريّح أنّ الخرطوم، رغم ازدهار التعليم الهندسي في السودان، وبعد أكثر من قرن، لا تزال تعاني من التخطيط الطبقي الذي ابتدعه الاستعمار، واستمرّت الحكومات السودانية في تبنّي تصنيفات مثل: درجة أولى، بخدمات عالية ومساحات أوسع، ودرجة ثانية، بخدمات محدودة ومساحات أصغر، ودرجة ثالثة، وغالباً ما تكون على أطراف المدن، وقد ظلّ تخطيطها هشّاً وبخدمات شبه معدومة. وما زال هذا التصنيف مُستخدماً في جميع مخطّطات الإسكان الرسمية، ما يَعني استمرار تكريس التمييز الطبقي في سياسات الأرض والسكن.
ويقول الريّح إنّ سياسات توزيع الأراضي الأخيرة في الخرطوم، تَعتمد على الأراضي الاستثمارية وإزاحة الأطراف ومُحاصَرتها، وليس على توفير السكن لذوي الدخل المحدود ورتق الفواصل الحادة بين الدرجات السكنية وتطوير العشوائيات إلى مناطق حضرية وتشاركية. ويضيف: «ليست الخرطوم محضَ مدينة نشأت عشوائياً، إنما هي مرآة لسياسات عمرانية مُحمّلة بالتمييز. وكَسْر هذا التمييز لا يكون عبر إنشاء طرق جديدة أو أبراج عالية فقط، إنما عبر إعادة تعريف مفهوم المدينة بوصفها فضاءً للعدالة والمشاركة أيضاً. لقد آن أوان الخروج من عباءة الاستعمار العمراني، وبناء عاصمة لجميع السودانيين، لا لفئة دون أخرى».
