لم تستهدف مليشيا الدعم السريع مؤسسات الدولة وحدها، ولم تكتف بنهب الثروات، وممتلكات المواطنين فحسب، ولكنها (بفهم) وتدبير مسبق من قادتها، امتد تخريبها لعقل الأمة ومراكز إشعاعها، ومرجعيات التخطيط، مثل مركز البحوث العلمية، ومراكز الدراسات الاستراتيجية، وأكاديميات البحث العلمي، ولم تجد في مراكز تلك البحوث ما يمكن حمله وتهربيه إلى الضعين، وخور برنقا، وشمال نيالا، فأشعلت النيران في آلاف البحوث، والأوراق العلمية، ومن بين عشرين مركز دراسات وبحوث، لم تترك المليشيا إلا واحدٌ اتخذته مقراً لاعتقال المواطنين!!
بدلاً من الإشعاع علماً ونوراً تهتدي به الدولة من ظلمات ليل البحر، ولكن أمة الأمجاد والماضي العريق والحاضر البائس والمستقبل المشرق لم تمت نخوتها، أو تندثر إلى الأبد همتها.. وقديماً قال عبد الناصر بعد هزيمة حزيران يونيو (من رماد الهزيمة ننسج خيوط الانتصار)، مع أن الانتصار لم يتحقق بعد، وتوالت الهزائم واحدة تلو الأخرى في بلادنا.. ومن رماد مؤسسات البحث العلمي ومراكز الدراسات المحطمة والمنهوبة والمحروقة ينهض في ثغر البلاد وعاصمتها المؤقتة مدينة بورتسودان مركزٌ للدراسات السياسية والاستراتيجية، بإيمان عميق من عدد من الأكاديميين والسياسيين من غير المنتمين إلى فكر محدد أوثقافة .. نهضوا بفكرة اجترحها أكاديمي وسياسي ومحارب شاب لتعويض البلاد ما فقدته من عقلها وذاكرتها، بالنهوض بمركز جديد يعني بدراسات المستقبل السياسي لبلاد تطمح في البحث عن سبل الوصول إلى تداول للسلطة عن رضا وقبول، وخطة اقتصادية تنهض بها في عالمٍ يمضي إلى الأمام، ونحن نتدحرج إلى الوراء..
صاحب فكرة مشروع مركز الدراسات رجلٌ لم يتقلب في أحضان السلطة ولا نعيم المال، ولكنه تقلب في وحشة السجن، وصبر على حكم إعدامٍ جائرٍ صدر بحقه، وقبلها كان يحتضن سلاحه في صحاري ووديان دارفور، مؤمناً بقضية أسماها العدالة والمساواة بين الناس، فدفع ثمن ما يعتقد أنه الصواب سجناً، وقيوداً على حريته الشخصية.
شاب اسمه عبد العزيز نور عشر جاء من بدو دار زغاوة في غرب السودان، مثل مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة للشمال، كتب نور عشر اسمه في حوائط سجن كوبر، الذي كان حصاده سنوات سجنه شهادة دكتوراه أهلته لأن يقف أمام طلاب الجامعات محاضراً في العلاقات الاقتصادية بين السودان والصين، وهو يتأبط شهادة أخرى في القانون، وبعد خروجه من السجن حل سجانه في ذات مكانه الموحش.!! وللمفارقة هرع الرفاق إلى المناصب التنفيذية في حكومة الانتقال، كان نصيب الدكتور عبد العزيز نور عشر رصيف الانتظار، ولم تفتر له همة ولم تلن له قناة، فكر وقدر ثم دبر قليلاً من المال، وكثيف من الأفكار، وعلى ضفاف البحر المالح المدينة التي تزدحم طرقاتها بالهاربين والنازحين من زئير الحرب، فجمع من النوابغ الفتاة الروائية أميمة عبد الله، ومن الباحثين المجيدين بروفيسور عبد الله عثمان التوم وهو أفضل ما كتب من كل السودانيين عن الثورات المسلحة من خلال سيرة د. خليل إبراهيم، والدكتور بدر الدين رحمة، والأستاذ جمال النيّل، ومولانا محمد هاشم، والأستاذ محمد عثمان موسى، ونخبة آخرين من خيرة الكفاءات السودانية.
وبدأ المركز التخطيط لندوة كبرى بمشاركة باحثين من وراء الحدود، لتدارس مستقبل البلاد بعد إيقاف الحرب قريباً، أما بالتفاوض أو أن يفرض الجيش وتحالف الحركات المسلحة واقعاً على الأرض يفضي لإقرار السلام، وقد صوب قادة ونخب المركز الوليد اهتماماتهم نحو إضاءة الدروب الاقتصادية المعتمة في غياب الخطط والدراسات الاقتصادية التي تعين التنفيذي في النهوض بالبلاد على هدي تلك الخطط.
المركز الوليد نشأ مستقلاً عن ثدي الدولة وضرعها الجاف، ولم يحظ بأي دعم حتى اليوم من الدولة، واعتمد على جهود ذاتية لمديره العام د. عبد العزيز عشر، وبعض مساهمات من بشارة سليمان القلب النابض لحركة العدل والمساواة، وهي داعمة للمركز ولكنها لا تسيطر عليه، ولا تملك فيه حتى سهماً واحداً رغم وجود بشارة وعشر الذي يخوض هذه التجربة العسيرة وهي تجربة تملك كثيراً من مقومات النجاح، وقليلاً جداً من أسباب الفشل.
وبالله التوفيق ،،،