*وَحَمُ الاستوزار في السودان*

*خالد محمد أحمد*

لا يكاد يمرُّ موسم سياسي أو تحوُّل انتقالي في السودان إلا وتعود إلى الواجهة حُمَّى الاستوزار؛ ذلك الشغف الكامن الذي يتلبَّس السياسيين، ويستبدُّ بالنخب، ولا يهدأ إلا بتسنُّم الكرسي مرةً في العمر لمن استطاع إليه سبيلاً.

من الوهلة الأولى، لا يبدو العائد المادّي للوزارة في السودان مغريًا؛ هذا بطبيعة الحال إذا أحسنَّا الظنَّ في نيَّة المستوزر؛ فمعظم الوظائف الوزارية لا تتجاوز في مخصَّصاتها ما يمكن أن يتحصَّل عليه مهنيٌّ في الخارج في منتصف السلّم الوظيفي، بل إن من يترك وظيفةً مرموقة في مؤسساتٍ دولية أو جامعات عالمية ليتولَّى منصب وزيرٍ في حكومة سودانية هشَّة، إنما يغامر بمستقبله المهني. أما من يطمع في الاستوزار لجني ثروة على عجلٍ، فذاك أمره واضح لا يستحقُّ التوقُّف عنده كثيرًا.

والمحيّر أن المستوزرين يُقْبِلون على الوظيفة رغم علمهم أن بقاءهم فيها لن يكفي لتغيير سياساتٍ، وأن الوقت لن يسعفهم لزرع مشروعٍ أو حصاد نتيجة. فالشاهد أن عمر الوزارة قصيرٌ، باستثناء فتراتٍ استبدادية بعينها كان فيها الوزراء يتقلَّبون في الحقائب. أما في سياقات الانتقال، فالوزارة تشبه عقود المقاولة القصيرة، إذْ يأتي الوزير ثم يُقال أو يستقيل قبل أن يفهم حتى موقع الملفَّات داخل درج مكتبه.

فما هو سرٌّ هذا الهوس بالاستوزار؟

لقد تحوَّلت الوزارة في السودان إلى تجربةٍ اجتماعية، وإلى حدثٍ عاطفي في سيرة السياسي السوداني؛ فالاستوزار في الوعي الجمعي يُدخِل المرء إلى “نادي الكبار” مهما قصُرت مدَّته؛ إذْ يكفي أن تسبق اسمه صفة “الوزير السابق”، لينفتح له باب المجالس المغلقة، والمنتديات الدولية، ودوائر القرار. ولربما في بعض الحالات أبواب التوظيف في مؤسساتٍ أممية أو مراكز أبحاث كانت في متناول غيره قبل أن يصير “معاليه”.

وللاستوزار عندنا طعمٌ مختلف وسحرٌ خاص، فهو ليس مجرَّد موقعٍ، بل ترقية اجتماعية كاملة يُمنَح فيها الإنسان ختم القبول الطبقي. ومن هنا يمكننا أن نفهم لماذا يترك بعض السودانيين وظائفهم ذات الرواتب المجزية في مؤسساتٍ وكياناتٍ دولية بارزة، ويعودون ليجلسوا على كرسي وزارةٍ قد لا يطول بهم المقام فيها، بل وأحيانًا يتنازلون عن رواتبهم طمعًا في الشرعية الرمزية التي يمنحها الاستوزار في مجتمعٍ ما زال يُقدّس المناصب.

لكن هذه الهالة الرمزية تُخفي تحتها لعنةً صامتة، إذْ ما إن يغادر الوزير منصبه حتى يجد نفسه مقيَّدًا باللقب ذاته، فما كان يقبله قبل الوزارة من وظائفَ واستحقاقاتٍ يغدو دون مقامه بعدها، ويتحوَّل اللقب إلى سجنٍ رمزي؛ ومع ذلك لا يفقد الاستوزار بريقه في عيون الطامحين.

والمفارقة أن هذا الهوس أفرز تصوراتٍ شعبية مضللة؛ إذْ ما فتئ الناس ينظرون إلى الوزير الجديد إذا استحسنوا استوزاره كأنَّه مُخلّص باستطاعته تغيير الواقع بجرَّة قلٍم، وكأنَّ الوزارة تُدار برغبة الوزير لا بتراكم العمل المؤسَّسي، فيُجتزأ الوزير من النظام ويُحمَّل وِزر فشل سنوات، وتُوضع عليه آمال سنوات أخرى، فتنشأ حالة من الشخصنة القاتلة للعمل العام، في ظلّ منظومةٍ متهالكة وموظفين باقين لا يتغيَّرون بتغيُّره.

والأعجب من ذلك أن حُمَّى الاستوزار لا تخفُّ حدَّتها حتى مع ما يحيط بها من حملات تشويهٍ واستقطاب سياسي حادّ؛ فكم من سياسيٍ، إلا من رحم ربي، يعلم يقينًا أن قبوله بمنصبٍ وزاري سيعرّضه لوابلٍ من الهجوم من مخالفي الحكومة، وقد يُتَّهم بموالاة النظام القائم؛ ومع ذلك لا يتردَّد في تلبية النداء متى ما عُرِض عليه الكرسي كأنَّما كلّ تلك الاتهامات تهون أمام بريق المنصب.

حدَّثني أحد أقربائي أن زوج شقيقته أرسل له مبلغًا من المال من عائد عمله طبيبًا في مدينة خليجية، وطلب منه شراء سيارة له، فاقترح قريبي على الطبيب أن يشتري له عربة (صالون) تليق بمقامه العلمي ووزنه المهني، لكن الطبيب رفض ذلك رفضًا قاطعًا، وألحَّ على أن تكون السيارة بُكْسِي (برينسة)، وهو ما حدث بالفعل. لم يمضِ وقتٌ طويل حتى بِيعت البرينسة، ليشترى له قريبي لاحقًا سيارة (صالون). أشدّ ما استوقفني هو أن قريبي عزا إصرار الطبيب على شراء البرينسة إلى أنه، في الواقع، كان يحقّق حلمًا ظلَّ يراوده منذ مطلع شبابه في القرية؛ إذْ إن اقتناء البرينسة في مثل تلك البيئات الريفية، أو هكذا كان الحال في ذلك الزمان، يعلّي من شأن صاحبها في محيطه الاجتماعي؛ فمن يملك البرينسة في القرى آنئذٍ يكون عادةً في مقام علية القوم، يُتقرَّب إليه، ويُطلَب منه، ويُشاد به، ويُلجأ إليه عند الذهاب إلى المستشفى لمعاودة مريضٍ، أو لحضور زواجٍ في قريةٍ مجاورة، أو للسفر إلى الخرطوم. ما حدث مع هذا الطبيب هو، على نحوٍ ما، عينُ ما يحدث مع المستوزرين، الذين لا يتردَّدون في التضحية بوظائف مرموقة في حاضرهم (العربة الصالون) من أجل حلٍم اجتماعي قديم (البرينسة). ففي الحالتين، لا تكون الغاية هي الراحة أو المنفعة المباشرة في حينها، بل نيْل مكانةٍ اجتماعية رمزية يراها صاحبها أرفع من أيّ موازنة عقلانية.

ورغم تقلُّبات الزمن وتغيُّر أحوال الاقتصاد والمجتمع، ما زال هناك من يؤْثِر البرينسة على الصالون!

Exit mobile version