واشنطن تحظر السودانيين.. فليحتفظوا بتأشيراتهم ونحن نحتفظ بكرامتنا

راشد شاويش
في خطوة لم تكن مفاجئة لمن يقرأ المشهد العالمي بتجرد ووعي، أدرجت الولايات المتحدة الأمريكية السودان ضمن قائمة الدول التي يُحظر على مواطنيها دخول الأراضي الأمريكية، تحت ذريعة “القلق الأمني”. لكن، وكما هي العادة، فإن العذر المعلن لا يعكس بالضرورة السبب الحقيقي، بل يُستخدم غطاءً لسياساتٍ قديمةٍ جديدة، عنوانها: “المصالح فوق المبادئ، والحظر لمن لا يسير في الركب.”
قبل أن نحلل قرار الحظر، علينا أن نسأل أنفسنا: من الذي يُهدد الأمن الدولي فعلاً؟ السوداني الذي لم يغادر أرضه إلا مكرهًا، أم أولئك الذين يموّلون النزاعات، ويشعلون الحرائق، ويديرون الحروب بالوكالة؟
السودان، رغم جراحه الكثيرة، لم يكن يومًا مصدر تهديد خارجي. لم يرسل مليشياته خارج حدوده، لم يهدد الأمن القومي لأية دولة، ولم يكن منبعًا للفوضى العابرة للحدود. بل العكس تمامًا، كان وما زال ضحية صراعات إقليمية ودولية، ومعبرًا لصراعات النفوذ، وساحة لتجارب القوى الكبرى.
الحظر الأمريكي: السياسة تلبس عباءة الأمن
قرار الحظر الأمريكي لا علاقة له بحقائق الأمن، بل يرتبط بشكل مباشر بتموضع السودان السياسي الراهن، وبمحاولته الخروج من تحت عباءة الوصاية الدولية، ورفضه الاستسلام لمليشيا انقلابية مسنودة إقليميًا. واشنطن، التي اعتادت التعامل مع أنظمة ضعيفة تابعة، فوجئت بأن الشعب السوداني –رغم ضعفه الظاهري– يرفض أن يُدار عن بُعد.
لم تحظر أمريكا المتورطين في جرائم الحرب، ولا من يموّلون الفوضى في السودان، بل اختارت أن تعاقب الضحية! لم تُصدر قوائم حظر على أمراء الحرب أو ممولي الدعم السريع، بل أغلقت الباب في وجه المواطن السوداني الذي هجّرته الحرب، ودمرت منزله المليشيات، ولم يبقَ له سوى حلم صغير بحياة كريمة.
أين كانت واشنطن عندما احترقت الخرطوم؟
أين كانت بيانات القلق حين احتُلت العاصمة السودانية؟ أين كانت الإدانات عندما اقتُحمت المستشفيات، واغتُصبت النساء، ونُهبت البنوك، واستُبيحت البيوت؟ ولماذا لم تُصنف الجهات الداعمة للمليشيا كجهات راعية للإرهاب، رغم وضوح الأدلة وتواتر الوقائع؟
الإجابة واضحة: لأن واشنطن لا ترى بعيون الضحايا، بل بعيون مصالحها. ما يهمها ليس حماية الشعب السوداني، بل حماية أدواتها ونقاط نفوذها. وإن تعارضت حقوق الشعوب مع مصالحها، فلتذهب الحقوق إلى الجحيم.
الإسرائيلي لا يُحظر.. لأن الميزان أعوج
إذا كان معيار الحظر هو تهديد الأمن، فالأجدر أن يُحظر الإسرائيلي، لا السوداني. فذاك الكيان الذي يرتكب المجازر يوميًا في غزة، ويهدد استقرار المنطقة بأكملها، ويضرب بالقانون الدولي عرض الحائط، هو أولى بالحظر من السوداني الذي يذود عن وطنه في وجه مليشيا مأجورة.
لكن إسرائيل حليف، والسودان غير مضمون. وهنا تتعرى المعايير، وتتساقط الشعارات، ويظهر وجه السياسة الحقيقي: براغماتية عارية من الأخلاق.
نحن لا نحتاج تأشيرات.. بل نحتاج كرامة
على السودانيين أن يدركوا هذه اللحظة جيدًا. إن كرامتنا لا تُقاس بختم في جواز سفر، ولا بتأشيرة في جدار سفارة، بل بثباتنا على مواقفنا، وبإصرارنا على حماية أرضنا، ورفضنا أن نكون ذيولًا لأجندات الخارج.
لسنا ضد السلام، ولسنا عشّاق حرب، لكننا لن نركع لمليشيا تريد احتلالنا، ولا لقوة تريد تدجيننا. وإن اختار العالم أن يُغلق أبوابه في وجوهنا، فنحن نفتح صدورنا لندافع عن ترابنا، ونبني وطننا رغم الجراح.
الختام: فلنحتفظ بما هو أثمن
فلتحتفظ أمريكا بتأشيراتها، ولتحتفظ بمواقفها المزدوجة، أما نحن فلنحتفظ بما هو أثمن: إيماننا، وكرامتنا، ووحدتنا، وإصرارنا على البقاء أحرارًا في وطنٍ حر.
لن يكتب التاريخ عن من مُنع من دخول أمريكا، بل سيكتب عن من وقف في وجه الحرب، وواجه الطغيان، وصمد في الميدان.