خالد محمد أحمد
كما كان متوقَّعًا، فقد جاءت قضية مياه النيل ضمن أجندة رئيس الوزراء، كامل إدريس، في زيارته الأولى للقاهرة. ولا يخفى أن هذه المسألة الحسَّاسة تشكّل مفتاحًا للتأثير السياسي، ولطالما اُسْتُغِلَّت لتحقيق مكاسب ضيّقة على حساب المصلحة الوطنية.
لقد ظلَّ هذا الملفّ يُدَار على الدوام بمنطق العواطف، وتبعًا لتقلُّبات السياسة والظروف الآنية؛ فقد شهدنا في الماضي القريب كيف تعامل نظام البشير مع هذه القضية، لا من منطلق المصلحة الوطنية الخالصة، بل من أجل إطالة أمَد سلطته عبر مغازلة القاهرة بهذه الورقة. ورأينا كيف سعى حميدتي إلى الاضطلاع بدور الوسيط في ملف سدّ النهضة في فترةٍ ما، لا بدافع الوساطة النبيلة، بل لخطب وُدّ مصر، انطلاقًا من إيمانٍ راسخ لدى كلّ من يحلم بحكم السودان بأن القاهرة هي أحد مفاتيح مغاليق السلطة في الخرطوم.
أما على المستوى الشعبي، ففي الوجدان السوداني كثيرًا ما يُنظَر إلى إثيوبيا على أنها قريبة إلينا وجدانًا وثقافةً ومزاجًا؛ يشاركوننا السلم الخماسي، ويطربون لأغانينا ويتغنَّون بها، ويبادلوننا الاحترام والتقدير. أما من يدوّرون أسطوانة الهوية المشروخة، فهُم أسرى هوس معاداة العروبة، يُروِّجون أن إثيوبيا أقرب إلينا إثنيًا، وأوثق صلةً بمصالحنا من مصر. وعلى الضفَّة الأخرى، يميل عشَّاق مصر إليها بما رسَّخه التاريخ من وشائج ثقافيةٍ وتداخلٍ إنساني عميق. وها هم المصريون، في قلب واحدة من أفدح الكوارث التي ألمَّت بالسودانيين في العصر الحديث، يشرعون الأبواب، ويمدُّون الأيادي بيضاء، في كرمٍ سيظلُّ محفورًا في ذاكرة من لجأوا إليهم فرارًا من أهوال الحرب. لذلك، ليس بمستغربٍ أن تزداد ميول كثيرين ممَّن آوتهم مصر إليها، كلَّما طُرِح على الطاولة ملفّ مياه النيل.
غير أن هذه الانطباعات الرسمية والشعبية، المتغيّرة بتغيُّر الظروف، يجب ألا تُؤسّس وحدها لأيّ موقفٍ مبدئي إزاء ملفّ مياه النيل؛ فمثل هذه القضايا المصيرية لا مجال فيها للعواطف والمجاملات والانطباعات الظرفيَّة، ويجب ألا يُترَك الحسم فيها أو تُبْنَى المواقف حيالها على الأهواء الشخصية، والأجندات الضيّقة، والمواقف السياسية الآنيَّة، بل ينبغي أن تحكمها المصالح العامة البعيدة المدى، وأن تُؤسَّس على (التفاصيل) الفنيَّة الدقيقة لا (العموميات) السياسية العابرة؛ فإن كانت المصلحة في جزءٍ من التفاوض في أيّ مرحلةٍ من المراحل تميل إلى إثيوبيا، فلا حرج أن نميل إلى أديس أبابا، وإن كانت مع مصر في مرحلةٍ أخرى، فلا مناص من أن نُيمِّم وجهنا نحو شمال الوادي؛ فليس كلّ ما يُرضِي مصر بالضرورة يُرضِي السودان، ولا كلّ خلافٍ مع إثيوبيا يُبرِّر الارتماء في أحضان القاهرة.
علينا أن نفصِل بين القضايا، وأن نكفَّ عن (لخبطة الكيمان) والتعامل مع الشأن العام بمنطق الأفراد والضرائر.
كما يجب أن نضع في الحسبان دائمًا أن صديق اليوم قد يصبح من ألدّ الأعداء غدًا، والعكس صحيح، في بحر السياسة المتلاطم الأمواج.
يذهب الرؤساء، وتتغيَّر الحكومات والأحلاف، وتتبدَّل المواقف، لكن يبقى ما تضمنه الأجيال السالفة للأجيال اللاحقة من حقوقٍ كاملة وثابتة. وقديمًا قِيل: إذا كَويتَ، فانضِجْ، وإذا مَضغْتَ، فادقِقْ!
أرجو أن يأخذ رئيس الوزراء، كامل إدريس، بهذه النصيحة في تعامله مع هذا الملفّ الحسَّاس.
