ندوب ما بعد العودة: كيف يتعامل المجتمع مع المتعاطفين مع الجنجويد؟

خالد محمد أحمد
أما وقد تراجع خطر الجنجويد نسبيًا، وبدأت رحلة العودة إلى الديار المحرَّرة بعد طول نزوحٍ وتشرُّدٍ ومعاناةٍ، فإن المجتمع يجد نفسه أمام اختبارٍ عسير، وهو كيفية التعامل مع مَنْ ساندوا الجنجويد بالكلمة، أو بالموقف، أو أبدوا تعاطفًا معهم على حساب ضحاياهم.
لقد آلَمَ كثيرين أن يخونهم مَنْ كانوا جزءًا من دوائر حياتهم اليومية مِنْ الرفاق، والأصدقاء، والجيران، والزملاء، والأقارب، الذين انساقوا وراء العصبيَّة القبلية، والمصالح الضيِّقة، والتوجُّهات الفكرية والسياسية، مُضحِّين بقيم الصداقة والجيرة والزمالة والقرابة.
فهل العفو والتسامح هو السبيل لترميم النسيج الاجتماعي، أم أن المقاطعة والعزل هما الجزاء العادل لمن خانوا العهد؟
وهل يمكن أن يثِق المرءُ مجددًا في مَنْ كان بالأمس يهتف تأييدًا للمجرمين ويتلذَّذ بآلام الأبرياء؟ أم أن عزلهم واجبٌ لحماية المجتمع من خطر التواطؤ والخيانة؟
وهل يمكن أن يندمج من تعاون أو تعاطف مع الجنجويد في المجتمع مجددًا، أم أن الجرح أعمق من أن يندمل؟
هذه الأسئلة ليست تنظيرًا عابرًا، بل واقعٌ ستفرضه الحياة حين نلتقي مجددًا في الأسواق، والمكاتب، والمنازل، ودور العبادة.
من البديهي استحالة محاكمة جميع داعمي الجنجويد قضائيًا، حتى مَنْ حملوا السلاح، نظرًا للعدد الهائل من المرتبطين بالقضية. أما المحاكمات الاجتماعية، فستكون متاحةً على نطاقٍ أوسع وأعمق بكثير، لكنها ستخضع للتقديرات الشخصية والعلاقات الإنسانية، لا لمعايير قانونية ناظمة.
غير أن المعضلة تكمُن في عدم وجود تعريفٍ دقيق لمصطلحي (المتعاون) و(المتعاطف) وما في حُكْمِها؛ فالتعاون مفهومٌ فضفاض يمتدُّ من المشاركة الفعلية في الحرب، إلى تقديم دعمٍ مباشر أو غير مباشرٍ، سواء بالفعل أو بالكلمة أو بالموقف. وهنا يبرز التمييز بين حرية التعبير، التي تُتيح للمرءِ إبداءَ رأيه، وبين التحريض أو التبرير للعنف، وهو بلا شكّ خيانةٌ للقيم الإنسانية، بل قد يرقى في بعض الحالات إلى مستوى الجريمة الأخلاقية أو القانونية.
ففي الحرب الرواندية، على سبيل المثال، لم يُعَدَّ ما بثَّتْه هيئة الإذاعة والتلفزة الحرَّة للتلال الألف (RTLM) حريةَ تعبيرٍ، بل جريمةٌ ضدَّ الإنسانية، لأنها روَّجت للكراهية وأسهمت في التحريض على القتل. ومع ذلك، فالأمر ليس دائمًا بهذه البساطة؛ فبعض (المتعاونين) أو (المتعاطفين) ربما اضطروا إلى ذلك جرَّاء ضغط الخوف، أو الإكراه، أو الحاجة. ومن الإنصاف أن تُراعي المحاكمة الاجتماعية هذه الحالات، مثل أُمٍّ أُجْبِرتْ على طهو الطعام لأفراد الميليشيا لتأمين قوت أطفالها.
قد تبدو المقاطعة استجابةً طبيعية لغضبٍ مشروع، لكنها قد تفرِّخ شروخًا اجتماعية. أما التسامح، فيُتيح فرصةً لرأب الصدع وفتح باب الحوار، مع أنه قد يبدو عند بعضهم تهاونًا مع الخيانة؛ لذلك، يجب موازنة العدالة الاجتماعية بالعقلانية لتجنُّب تحوُّل مرارات الشعور بالغدر إلى وقودٍ لنزاعاتٍ جديدة قد تمتدُّ لأجيالٍ قادمة.
لقد أورثتنا هذه الحرب ضغائنَ عميقةً ومشاعرَ سلبيةً، وإنْ أردنا التعايش والسلام، فلا سبيل إلا نبذ الكراهية والنفور. غير أن العفو لا يعني النسيان، والتسامح لا يلغي الحذر ممَّن استباحوا الحقوق والممتلكات والأعراض، أو سوَّغوا الجرائم بدوافع سياسيةٍ أو عصبيَّة؛ فكلُّ من ارتكب جريمةً جسيمة يجب أن تطوله العدالة ولا تأخذنا به رأفة.
هذه ليست دعوة إلى التهاون، بل إلى التأمُّل في سُبُل تجاوز الجراح، ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، درءًا لمزيدٍ من التمزُّق والتشظِّي.



