رأي

من معسكرات الاعتقال الكورية إلى الخرطوم: إعادة إنتاج الموت النفسي

 

عبدالعزيز يعقوب

(١)

في نهاية الحرب الكورية عام 1953، وقع قرابة ألف جندي أمريكي في قبضة القوات الكورية الشمالية. نُقل هؤلاء إلى معسكر احتجاز لم يكن يشبه المعتقلات التقليدية؛ لم تُمارس فيه أساليب التعذيب الجسدي، ولم تُفرض قيود صارمة على الحركة، بل كانت ظروفه المعيشية تستوفي المعايير الدولية. ومع ذلك، سُجِّلت حالات وفاة مريبة، بمعدلات مرتفعة ودون وجود أعراض مرضية أو عنف ظاهر.

 

توفي الجنود في صمت، وهم في أسرّتهم، دون أن تُسجَّل عليهم إصابات أو أمراض واضحة. أمام هذا اللغز، كلّفت وزارة الدفاع الأمريكية الجنرال والطبيب النفسي ويليام إي. ماير بتحليل الظاهرة، وكانت نتائجه مثيرة للقلق: لم يُقتَل الجنود بالرصاص، بل تم إسقاطهم نفسيًا بأساليب تندرج تحت ما يُعرف اليوم بالحرب النفسية الناعمة.

 

(٢)

توصل ماير إلى أن الأسرى تعرّضوا لما أسماه “الاستسلام السلبي الكامل” أو Give-up-itis، وهو نمط من الانهيار النفسي الداخلي الذي يؤدي إلى الموت دون أسباب جسدية مباشرة. تم تحقيق ذلك عبر ثلاث أدوات رئيسية:

 

أولًا: التحكم الانتقائي بالمعلومات. حيث اقتصر ما يُعرض للأسرى على أخبار سلبية تتمحور حول الهزائم والخيانة والكوارث، بينما حُجبت أية أخبار إيجابية أو مؤشرات على إنقاذ محتمل. أدّى هذا إلى خلق شعور بالعجز الوجودي، وسحق أي قدرة على التمسك بالأمل أو توق إلى الخلاص.

 

ثانيًا: تدمير احترام الذات عبر الاعترافات القسرية. فقد طُلب من الأسرى مرارًا أن يرووا علنًا قصصهم الشخصية عن التقصير، أو خيانة الزملاء، أو لحظات ضعفهم. هذه الطقوس الجماعية عمّقت الإحساس بالعار، ومزّقت الصورة الذاتية لكل فرد، فتولّدت مشاعر الهزيمة الداخلية والإذلال النفسي.

 

ثالثًا: تفكيك العلاقات الاجتماعية عبر التجسس الداخلي. شُجع الأسرى على التجسس على بعضهم مقابل مكافآت بسيطة مثل سيجارة أو حصة طعام إضافية، بينما لم تُفرض عقوبات على المبلغ عنهم. هذا النظام أنتج بيئة مشبعة بالريبة، وانعدمت فيها الثقة، وسقطت معها الحواجز الأخلاقية التي تحفظ أي شكل من أشكال التضامن أو الشعور الجماعي بالأمان.

ما جمع بين هذه الأدوات أنها لا تستهدف الجسد بل تنفذ مباشرة إلى عمق النفس، لتُحدث موتًا سيكولوجيًا يسبق الموت البيولوجي، وتُحوِّل الإنسان إلى كائن فاقد للإرادة، مطفأ من الداخل.

(٣)

هذه التجربة لم تبقَ حبيسة معسكرات كوريا الشمالية، بل تم استنساخها في أشكال أكثر أناقة ونعومة، عبر أدوات الإعلام والفضاء الرقمي في المجتمعات المعاصرة، لا سيما في الدول المنهكة سياسيًا واجتماعيًا، كما هو الحال في السودان اليوم.

في المشهد السوداني، يتحول الإعلام اليومي – سواء كان موجهًا عن قصد، أو عشوائيًا بفعل الانفلات الرقمي – إلى ما يشبه قصفًا نفسانيًا دائمًا، حيث تُعاد إنتاج العبارات المحمّلة بطاقة هدمية عالية

“البلد انتهت”،

“الشعب فاشل ويستحق ما يحدث له”،

“لا أمل، لا مستقبل”،

“الكل خائن، الكل انتهازي”،

“لا أحد جدير او يستحق الثقة”.

 

تتكرر هذه العبارات حتى تتسلل من حيز الكلام السلبي إلى حيز القناعة، ثم إلى السلوك، ثم إلى بنية الهوية النفسية للفرد. فتنشأ ذوات مهزومة، تكره نفسها، وتُسفِّه محاولات الإصلاح، وتسخر من رموز الأمل وتحتقر كل من يحاول النهوض.

 

تتعمق الأزمة حين تتكامل هذه المنظومة مع الانقسامات الإثنية والمناطقية والطبقية، ليبدو أن الهدف ليس فقط إسقاط الدولة، بل تفريغ الإنسان نفسه من كل قدرة على المبادرة، والإيمان، والانتماء.

(٤)

في مواجهة هذا السجن غير المرئي، لا تكفي الخطابات الحماسية ولا النقد السياسي. تبدأ المقاومة الفعلية باسترداد السيادة على الذات، والقدرة على التحكم في مدخلات الوعي اليومي.

أولًا: علينا أن نختار بوعي ما نستهلكه من أخبار ومحتوى، وما نردده من عبارات، وما نمنحه شرعية التأثير في عقولنا.

ثانيًا: أن نمتلك الشجاعة لطرح خطاب بديل؛ خطاب لا ينكر الأزمة، لكنه لا يخضع لها. لا يكرر المأساة، بل يفتح ثغرة في الجدار.

الأمل ليس ترفًا شعوريًا، بل موقف أخلاقي ومعرفي.

والكرامة ليست حلمًا نخبويًا، بل شرطٌ للوجود السليم.

في لحظات الانهيار، المجتمعات التي تختار أن تُحافظ على تماسكها النفسي والأخلاقي، هي التي تملك مستقبلها.

إن معركة التحرير تبدأ حين نرفض أن نكون أسرى في سجن لا نراه… سجن تصنعه الكلمات، وتغلقه العقول المهزومة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى