رأي

من الكيزانوفوبيا إلى البلابسوفوبيا!

إبراهيم عثمان

كان شعار الكيزانوفوبيا الأشهر: (أي كوز، ندوسو دوس .. ما بنخاف .. ما بنخاف) يتوعد المستهدفين بإلغاء التعامل الإنساني معهم، وبرفع أي حاجز أخلاقي ضد إيذائهم، وبالمضي في التنكيل إلى المدى الذي يصله الشعار الذي يبدأ بلفظ “أي” المانع للاستثناء، ويستخدم لفظ “ندوسو” المفتوح على كل أشكال القهر والتنكيل، ويضاعف التوكيد بالمفعول المطلق “دوس”، ثم بتكرار عدم الخوف من رد الفعل.

جاء تمرد الميليشيا “كفرصة” مثالية للميليشيا لتفعيل الشعار بطاقته القصوى. لكنها لم تحاول استثناء عامة المواطنين بتعامل تفضيلي منفصل عن تعاملهما مع الكيزان، فوسعت نطاق الدوس. وقد ساعدها على ذلك أعوانها الذين أطلقوا تسمية “البلابسة” وروجوا لها وحمَُلوها بتضمينات سلبية (في نظرهم)، على رأسها العداء المطلق للميليشيا!

ومن هنا وُلِدت لدى الميليشيا وأعوانها  العقدة الجديدة التي يمكن تسميتها “البلابسوفوبيا” وهي ليست مجرد امتداد باهت للكيزانوفوبيا، بل هي فوبيا أوسع وأعمق تتضمن “الكيزانوفوبيا” داخلها، فكل الكيزان، بالضرورة، بلابسة ــ طبعاً ما عدا كيزان الميليشيا وكيزان قحت ــ وكل المعادين للميليشيا هم إما كيزان، أو داعمون لهم، أو بلابسة!

إذن ليست البلابسوفوبيا فقط امتداداً كمياً للكيزانوفوبيا، بل هي أيضاً امتداد نوعي. فبينما كانت الكيزانوفوبيا تعمل بآلية العدو المختزل الذي يُحمَّل وزر كل الشرور. جاءت البلابسوفوبيا لتذيب الحدود، ولتحوِّل الصف الرافض لعدوان الميليشيا كله إلى صف شرير. وقد تحقق بذلك ما وصفه المفكر زيجمونت باومان بـ “تسييل العدو”.

كانت الكيزانوفوبيا تعمل بمنطق صناعة عدو محدد لتبرير الحشد السياسي والاجتماعي ضده، لكن العقبة التي تواجهها “البلابسوفوبيا” هي أنها لا تؤدي وظيفة الحشد، بل هي عمل ضد الحشد السياسي والاجتماعي الذي يصنعه إجرام الميليشيا. ولعله لهذا السبب لم تجرؤ الميليشيا، ولم يحرؤ أعوانها، على صك شعار تحشيدي من شاكلة: “أي بلبوس ندوسو دوس”، وتركوه للممارسة والإنكار!

إذن البلابسوفوبيا أخطر من الكيزانوفوبيا لأنها موجهة نحو شريحة اجتماعية واسعة تمثل الأغلبية. وهي قد تعرضت للدوس من جانب الميليشيا مادياً بالقتل والتشريد والنهب، ومن جانب اعوانها معنوياً بالتشويه والتحقير والازدراء. وهي أيضاً أخطر لأنها تشمل أيضاً كل الأجهزة النظامية، وتقصدها بالتشويه والشيطنة وتجريم مساندتها، وتجريم بيع السلاح لها!

البلابسة الحقيقيون في نظر المواطنين ــ أي أصحاب التطبيق السيء لشعار “بل بس” ــ هم جنود الميليشيا، ومرتزقتها الأجانب، الذين يمارسونه ضد المدنيين، وعلى نطاق واسع، وكقاعدة وليس استثناء، لكن الميليشيا وأعوانها، يحولونه منها إلى المواطنين الذين يرفضون الميليشيا، ويبادلونها عداءً بعداء، واستهدافاً بمقاومة!

حصنت الميليشيا تطبيقها لشعار “بل بس” على المواطنين من “المقاومة”، وقد تبعها في هذا التحصين أعوانها، فأصبحت “المقاومة” من جانب أي مواطن أتاه التطبيق العملي لشعار “بل بس” في حيه وقريته وحتى داخل بيته، في نظر الميليشيا واعوانها، “رجس من عمل الشيطان”. ويستحق صاحبه دوساً مضاعفاً أكبر من النهب والتشريد، وهذا يزيد في إثبات أن البلابسوفوبيا، في تطبيقها العملي، أخطر بكثير من الكيزانوفوبيا.

بهذا التجريم المطلق لمقاومة العدوان توسعت دائرة البلابسوفوبيا أكثر لتشمل جميع المواطنين في المنطقة المستهدفة بواسطة الميليشيا، بمن فيهم من كانوا أنصاراً لأعوان الميليشيا، طالما إنهم يقاومون العدوان، أو يتخذون موقفاً نهائياً ضد الميليشيا بسببه. وأصبحت بذلك البلابسوفوبيا لا تتحدد فقط بمواقف وأفعال المواطنين، بل أيضاً بسلوك الميليشيا، فطالما إنها قد اعتدت على منطقة، وطالما إن سكانها قد رفضوها وطالبوا بحسمها، ولو لم يقاوموها، فقد أصبحوا، بالتعريف، بلابسة كاملي الدسم!

بهذا التوسيع للكيزانوفوبيا إلى  البلابسوفوبيا انعزلت الميليشيا، وانعزل أعوانها، عن غالبية الشعب، وهذه خسارة سياسية كبرى ملموسة، ولن يغطيها الإنكار، ولن يعالجها مزيد من الابتزاز بالعنف والتخريب، ولن تعوضها عطايا الكفيل مهما كثرت!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى