من التمويل الأصغر إلى الشمول المالي… السودان يخطو نحو تنمية أكثر شمولاً وعدلاً

هبة محمود صادق فريد

“يشكل التحول المؤسسي في بنك السودان نقطة انطلاق نحو نظام مالي شامل يحتضن الجميع، ويعزز التكامل بين السياسات النقدية والزراعية والصناعية لتقوية الاقتصاد الحقيقي ودعم التنمية المستدامة”
يبدو أن بنك السودان المركزي التقط أخيرًا الإشارة الصحيحة, حين قرر تحويل وحدة التمويل الأصغر إلى إدارة عامة للشمول المالى. هذه الخطوة ليست مجرد تعديل إداري، بل إعلان نوايا حقيقية نحو اقتصاد جديد أكثر عدالة وشمولاً.
لقد طال انتظار هذا التحول من قِبل المختصين والعاملين في مجالات التمويل والاقتصاد، لأنه يمثل انتقالًا من مرحلة المبادرات الجزئية إلى مرحلة الرؤية الوطنية المتكاملة التي تضع المواطن في قلب النظام المالي لا على هامشه.
ومن الإنصاف أن نذكر أن فكرة الشمول المالي لم تولد اليوم، بل كانت ثمرة مسار طويل بدأ منذ تشكيل اللجنة الوطنية للتسيير وتأسيس وحدة التمويل الأصغر بقيادة الراحلة الأستاذة إشراقة ضرار، رحمها الله، التي وضعت اللبنات الأولى لهذا المشروع الوطني . وخلال فترة رئاستي للوحدة في العامين الأخيرين فى استراتيجية بنك السودان المركزي لتطوير قطاع التمويل الأصغر (2007–2011)، كنا نطالب منذ ذلك الحين بصياغة سياسة عامة وطنية للشمول المالي، تُترجم عملياً في استراتيجيات البنك المركزي ووزارة الاتصالات ووزارة المالية وبقية الوزارات والمؤسسات ذات الصلة، بحيث يكون لكل جهة دور محدد حسب إختصاصها في تنفيذ سياسة الشمول المالي.
اليوم، ومع التحول إلى إدارة عامة للشمول المالي بصلاحيات موسعة، نرى ثمرة تلك الجهود الأولى وقد بدأت تتشكل في مسار مؤسسي جديد يحمل الأمل في بناء نظام مالي شامل وعادل يستوعب الجميع ويخدم الاقتصاد الحقيقي.منذ عام 2007، قامت وحدة التمويل الأصغر بدور رائد في دعم الفئات محدودة الدخل وتمكينها من النفاذ إلى التمويل.
لكن، رغم أهمية كل ما قام به بنك السودان المركزي في تطوير قطاع التمويل الأصغر و فى دعم و تمويل الشباب و المرأة و صغار المنتجين والمزارعين من خلال مشروعات نموذجية مثل مشروع ربط صغار المزارعين بالأسواق، وتحليل سلاسل القيمة لمنتج الكركدي وغيرها من المبادرات الرائدة، إلا أن الأثر الاقتصادي والاجتماعي لتلك الجهود لم يكن بمستوى الطموح ولا بحجم الجهد والتمويل المبذول. ويعود ذلك في جوهره إلى غياب الاتساق بين سياسات البنك المركزى النقدية, و بين سياسات الإستثمار والسياسات المالية والزراعية والصناعية, إذ كانت خطوات البنك المركزي متقدمة في اتجاه، بينما بقيت السياسات القطاعية الأخرى تسير بوتيرة مختلفة، فكانت النتائج أقل من المأمول.
من الفكرة إلى المؤسسية… ومن المؤسسية إلى الرؤية:
التحول نحو إدارة عامة للشمول المالي يعني الانتقال من المبادرات إلى السياسات, ومن المشاريع إلى البرامج الوطنية.
إنها فرصة لبناء ثقة جديدة بين المواطن والنظام المصرفي, وتحويل الثقافة المالية من حفظ النقود إلى توظيفها, ومن الاستهلاك إلى الإنتاج. وإذا ما أُحسنا إدارة و استثمار هذه الخطوة، فستكون الإدارة الجديدة مركز تنسيق وطني يربط بين المؤسسات الحكومية, والبنوك, والقطاع الخاص،, والمنظمات الدولية, لتحقيق هدف واحد: نظام مالي يحتضن الجميع, ولا يُقصي أحداً.
تكامل السياسات… مفتاح التحول الحقيقي:
و اليوم، ومع قرار تأسيس إدارة عامة للشمول المالي تبرز فرصة حقيقية لبناء نظام مالي شامل ومستدام، يكون أكثر اتساقًا مع أولويات التنمية الوطنية. فهذه الخطوة يمكن أن تمثل نقطة انطلاق جديدة نحو اقتصاد يحتضن الجميع، من خلال توسيع قاعدة المستفيدين من الخدمات المصرفية الرسمية، وتعزيز التمويل الرقمي، ونشر الثقافة المالية، وتمكين المرأة والشباب ليكونوا جزءاً فاعلاً في حركة الإنتاج والنمو.
الشمول المالي كخيار وطني لا ترف مؤسسي:
و لكن لابد أن يكون الشمول المالي مشروع وطني لا يكتمل دون تناغم السياسات النقدية والمالية والزراعية والصناعية في إطار رؤية تنموية شاملة. فالسياسات النقدية وحدها لا تستطيع دفع عجلة الإنتاج إذا كانت السياسات المالية تُثقل كاهل المنتجين بالضرائب, أو إذا غابت السياسات الزراعية والصناعية التي تحفز الاستثمار وتخلق فرص العمل. ومن هنا, تبرز الحاجة الماسة إلى تبني سياسة وطنية شاملة للشمول المالي, يقوم فيها البنك المركزي بدور محوري، ولكن في إطار تنسيقي مؤسسي تشارك فيه الوزارات والجهات ذات الصلة وخصوصاً وزارات المالية والاتصالات والزراعة والصناعة, بالإضافة للقطاع الخاص و المجتمع المدنى.
الشمول المالي كأداة لإعادة توزيع الفرص بعدالة وبناء الثقة
لم يعد الشمول المالي مجرد مفهوم مصرفي أو برنامج تقني، بل أصبح قضية وطنية ترتبط بالعدالة الاقتصادية وحق كل مواطن في المشاركة الفعلية في النمو والتنمية. فكل فرد ينبغي أن تتاح له الفرصة للوصول إلى الخدمات المالية، سواء من خلال حساب مصرفي، تمويل مناسب، تأمين، بالإضافة لوسيلة دفع رقمية، ليصبح جزءًا فعالًا من الدورة الاقتصادية، ويخرج من دائرة التهميش إلى دائرة الإنتاج والإسهام.
ويُقاس الشمول المالي اليوم من خلال مؤشرات عملية، أهمها:
– نسبة السكان الذين يمتلكون حسابات مصرفية أو محافظ رقمية نشطة،
– انتشار الخدمات المالية في المناطق الريفية،
– نسبة النساء والشباب ضمن المستفيدين،
– ومستوى الوعي المالي والثقة بالمؤسسات المصرفية.
هذه المؤشرات ليست مجرد أرقام، بل مرآة لمدى عدالة توزيع الفرص في المجتمع. فالمجتمعات التي تحقق تقدماً في الشمول المالي، تحقق تلقائياً تقدماً في الاستقرار الاجتماعي، وتقل فيها فجوات الدخل، وتزداد فرص الاستثمار والنمو.
التقنية والاتصالات… قلب الشمول المالي النابض
لم تعد البنوك وحدها تصنع الشمول المالي, بل أصبحت شركات الاتصالات والتقنيات المالية (FinTech) شريكاً رئيسياً في المعادلة. فالهاتف المحمول اليوم أقرب إلى المواطن من أي فرع مصرفي, وكل محفظة إلكترونية تُفتح هي نافذة أمل لأسرة جديدة تدخل النظام المالي.
ولهذا فإن نجاح إدارة الشمول المالي يتطلب شراكة ذكية بين بنك السودان والقطاع المصرفي والاتصالات، لتوسيع استخدام المحافظ الإلكترونية والدفع عبر الهاتف, وربطها بالخدمات الحكومية والقطاع الخاص, مما يخلق شبكة مالية رقمية تغطي البلاد كلها. إن التحول الرقمي ليس خياراً تقنياً فحسب, بل ضرورة تنموية تفتح الطريق أمام فئات لم تصلها الخدمات التقليدية لعقود طويلة.
الحلقة المفقودة: وكالة تطوير المشروعات الصغيرة والمتوسطة:
ضمن الرؤية المتكاملة للشمول المالي, تبرز الحاجة الملحّة لتأسيس وكالة وطنية لتطوير المشروعات الصغيرة والمتوسطة والأصغر, لتكون الضلع الثالث في منظومة الشمول المالي إلى جانب بنك السودان ووزارة الاتصالات والتحول الرقمي.
تأسيس هذه الوكالة يمثل نقطة توازن بين التمويل والسياسات والإنتاج, ويضمن أن يكون الشمول المالي وسيلة لخلق فرص عمل حقيقية وتنمية الإنتاج المحلي, لا مجرد توسع في الائتمان.
و ستعمل الوكالة على:
– تطوير السياسات الكلية لدعم وتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
– تطوير سياست تشجيع ريادة الأعمال.
– بناء القدرات الإدارية والتقنية لرواد الأعمال.
– إجراء الدراسات و المسوحات اللازمة.
– الربط بين التمويل والابتكار والإنتاج.
– العمل على تطوير السياسات و تنفيذ البرامج و المشروعات التى تعمل على ربط صغار المنتجين بالأسواق.
– تسهيل النفاذ إلى الأسواق المحلية والإقليمية.
شروط النجاح وملامح خارطة الطريق:
لضمان نجاح إدارة الشمول المالي الجديدة وتحقيق أهدافها، تبرز ملامح خارطة طريق عملية تشمل ما يلي:
– إرادة مؤسسية قوية تدعمها القيادة السياسية لتضمن تناغم الجهود.
– قاعدة بيانات وطنية دقيقة لتحديد الفئات غير المشمولة مالياً ووضع سياسات موجهة.
– تطوير البنية الرقمية والاتصالاتية لتوسيع نطاق الخدمات المالية الإلكترونية.
– تعزيز الثقافة المالية عبر التعليم والإعلام والمبادرات المجتمعية.
– تشجيع الابتكار المالي والتقنيات الرقمية (FinTech) لابتكار منتجات تلائم احتياجات الفئات الضعيفة.
– تشريعات وتنظيمات متطورة تحمي المستهلك المالي وتدعم الثقة في النظام المصرفي.
– شراكات وطنية ودولية لنقل الخبرات وتبادل المعرفة والاستفادة من التجارب الناجحة
إن الشمول المالي هو بوابة السودان نحو اقتصاد المستقبل, ولن يتحقق إلا بإرادة وطنية صادقة ورؤية اقتصادية متكاملة تجعل من هذه المبادرة مشروع دولة لا مشروع إدارة, ورؤية وطنية لا قراراً مؤقتاً.
الرئيس الأسبق لوحدة التمويل الأصغر ببنك السودان المركزي

Exit mobile version