رأي

مؤتمر لندن: “شعبَك أقوى وأكبر ممّا كان العدو يتصوّر”

 

مجدي الجزولي

قامَ في 15 أبريل الجاري مؤتمرٌ في لندن، دعت له الحكومة البريطانية لتدبير شؤون السودان، وقَعَد قبل أن يقوم مستقيماً، تمخَّض فوَلِد فأراً. وانتهى إلى بيانٍ قصير من رئاسة المؤتمر لم يتّفق عليه أقطابه، كرَّرَتْ فيه عباراتٍ تقيَّةً عن ضرورة وقف الحرب وإسعاف المدنيّين. جاء تصميمُ المؤتمر ليُوافق الذكرى الثانية لاندلاع حربنا «العبثيّة»، وهي العبارة الأثيرة لوصف ما بنا عند مُراقبي أحوال السودان من غير أهله، ومَن يُوالونهم الرأي، ومَن يرفدون تصوّراتهم «كومبارس أو كورَس»، كيفما اتّفق. و«العبثُ» غيرُ المعنَى، طَرْدٌ من التاريخ ينضج بالكِبْر الاستشراقي. وللمقارنة، للقارئة أن تتساءل إنْ كان يصحُّ وصف حروب يوغوسلافيا السابقة، على عنفها أو دمويّتها، بالعبثية. وعادة ما يُسفر أرباب «العبثية» عن باطنٍ لهذه العبارة غير ظاهرها، برَدِّهم الحربَ إلى أسباب هيكلية عميقة أو مُؤامرة متينة للنظام السابق، فإمّا «عبثية» أو «هيكلية» أو «مؤامرة»، ولا يجتمِعْنَ بغير تفسير قويم.

على كُلٍّ، دعَت الحكومة البريطانية لمؤتمر لندن وزراء خارجية وممثّلين مرموقين لكلّ من كندا، وتشاد، ومصر، وإثيوبيا، وكينيا، والمملكة العربية السعودية، والنرويج، وقطر، وجنوب السودان، وسويسرا، وتركيا، والإمارات العربية المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية؛ إلى جانب جامعة الدول العربية، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة؛ للتباحث في مصاب السودان واهتبال طريقٍ ما إلى الأمام. وكشكول القوى الدوليّة والإقليميّة حول الطاولة، دلالةٌ على مدى تبضُّع شؤون السودان في بازار علاقات الشوكة الدوليّة، وفشلُه دلالةٌ أعظم على انسداد هذا الطريق غير الموجود، زقاق ضيّق أعمى تُحيط به أسوار حصينة من المصالح الغيريّة.

تظاهَرَ خارج هذا المبنى المئاتُ من أهلِكَ الذين «هبّوا» للنّصرة في يوم عملٍ ضدّ تخريب الدعم السريع للبلاد وحياة أهلها، ومنجزاتها المادية وتاريخها وروحيتها؛ وبالمختصر ضدّ تهديدها كامل التكوين الاجتماعي وليس «الدولة» وبس مقطوعة الطاري

غابَ، أو قل غُيّب عن مؤتمر لندن أيّ طرف سياسي سوداني محلّي ذي اعتبار حقٍّ ونفوذ. لكن، بينما اجتمع الدبلوماسيوّن في لانكاستر هاوس، وشغَل حِجَاجُهم قاعاتِه الفخمة، عرَض أهل السودان غريزتَهم الديمقراطية لايڤ في شوارع لندن. والمبنى من العصر الإمبريالي البريطاني (شُيِّدَ في العام 1825)، وتتّخذه الخارجية البريطانية دارَ ضيافةٍ منذ العام 1913، وكان مسرحاً لأفلام شرلوك هولمز، وأخيراً بالإيجار لمسلسل «التاج» عن حياة الملكة إلزابيث الثانية. تظاهَرَ خارج هذا المبنى المئاتُ من أهلِكَ الذين «هبّوا» للنّصرة في يوم عملٍ ضدّ تخريب الدعم السريع للبلاد وحياة أهلها، ومنجزاتها المادية وتاريخها وروحيتها؛ وبالمختصر ضدّ تهديدها كامل التكوين الاجتماعي وليس «الدولة» وبس مقطوعة الطاري، وندّدوا بالمجهود الحربي الإماراتي المُمتدّ خلال سنتين من الحرب، لمصلحة وكيلتها الدعم السريع. ولم يعد هذا المَدد الحربيّ سرّاً، فقد ثبت قطعاً وجزماً، وبلغ من حيث الحجم والمدى مبلغاً بعيداً، بما في ذلك خطّ إمداد جوّيّ مستمرّ ينقل السلاح والذخائر والمرتزقة من جهات الأرض، حتى بلغاريا وكولومبيا. وفاقَ بذلك كلّ ما طرأ على السودان من تدخًّل حربي في تاريخه الحديث، من حيث التكنولوجيا القتالية والدعائية، إلا ربما، باعتبار قياس العصر، الحملة البريطانية الناجحة لاحتلال السودان في أصيل القرن التاسع عشر.

حامَ في «الأجواء» اللندنية تلك، نَفرٌ مُختارٌ من الأعلام السياسيين السودانيين، هيَّأت لهم يدُ الدبلوماسية الخفيّة الحضور في لندن في ميقات المؤتمر، نفرٌ من حطام الفترة الانتقالية التي أعقبت الثورة على نظام الرئيس البشير، وما زالوا على تلك المَوجدة تُقدِّمهم ذات اليد أو الأيادي، على أنهم بديل السودان المدني الديمقراطي أو الأمناء عليه. اختصرت جريدة «الغارديان» البريطانية في كلمة تحرير قصيرة، بمناسبة العيد الثاني لحربنا «العبثية»، الحجّة التي تقول بها الحكومة البريطانية، وكذلك هذا النفر من السياسيين السودانيين، الذين اتفق وجودُهم في لندن أوان مؤتمرها. وتطرأ الحجّة ذاتها بوجهٍ وآخر، مع تعديلاتٍ مُتباينة في الصياغة أو السَّمْت في الآراء المكتوبة والمنطوقة، لقسْط عظيم من مجتمع «خبراء السودان». وهذه شبكة مجاملة تجمع فريقاً مُتعدِّدَ الأجيال من الأكاديميين، والعاملين في العون الإنساني الدولي، والدبلوماسيين والأمنجيّة ومُخبريهم المحليِّين، الذين يقوم مَعاشُهم منذ عهود على أزمات السودان، معاش تحقَّقت به سيَرٌ مهنيةٌ ناجحةٌ ومواقعُ أكاديمية مرموقة واستشارات لدول غالبة ومنظَّمات مهيبة، هذا وإنْ فشل العديد منهم حتى ساعتنا هذه في تعلُّم اللغة العربية أو أي لغة أخرى من لغات ناس السودان العديدة.

وها قد مرَّت سنتان على الحرب، والحرب كما الثورة: أوقعُ معملٍ لتسارُع التاريخ بالخطوة العريضة. لكنْ يظلُّ المنظار على ما هو عليه، على طريقة «الكلام الأوّل ما بِتْحَوَّل»، فيمرُّ التاريخ دَورةً كأنْ لم يحدث شيء، مكانَك ِسر. والعُقدة أنَّ هذا المنظار يعكس ما يختلط في ذهن الناظر من تصوُّرات، لا ما يطرأ على موضوع النظر، فهو يكشف للناظر ما يُبطِن من تصوُّرات «استشراقيّة» عن دراما كبرى

فما عناصر هذه الحجّة؟ عرضت «الغارديان» على القارئة صراعاً دموياً على السُّلطة بين جنرالين، وسكّاناً قيد التقتيل المطلوق على يد الجانبين، ومصالحَ دول أخرى، وسياسيين مدنيين ديمقراطيين مظلومين أزاحهم الجنرالان من السُّلطة في انقلاب، وإسلاميين متعصِّبين يتآمرون خلف الكواليس لاستعادة الحكم، وانقسامات إثنية متعاظمة. لكنْ، لا تمييز لوزن أيٍّ من هذه العناصر أو لترتيبها، فإنها تضطرب بغير تحديد كأنها عناصر تعويذة: ضرس شمال لغنماية بها عرج في ساقها الأمامية اليسرى، ودم أم سِيسي بيضاء بنقطة سوداء في جبهتها إلى جهة اليمين قليلاً، وخرزتان، ومحلب أصلي. وصارت بهذا التشكيل «العبثي» عقيدة دوغمائية، تُقاوم الاستقصاء والبحث المكين. وها قد مرَّت سنتان على الحرب، والحرب كما الثورة: أوقعُ معملٍ لتسارُع التاريخ بالخطوة العريضة. لكنْ يظلُّ المنظار على ما هو عليه، على طريقة «الكلام الأوّل ما بِتْحَوَّل»، فيمرُّ التاريخ دَورةً كأنْ لم يحدث شيء، مكانَك ِسر. والعُقدة أنَّ هذا المنظار يعكس ما يختلط في ذهن الناظر من تصوُّرات، لا ما يطرأ على موضوع النظر، فهو يكشف للناظر ما يُبطِن من تصوُّرات «استشراقيّة» عن دراما كبرى، مقتلة ومؤامرة وخيانة ومجاعة ومسغبة وأبطال «عَكْسِ مَا إنَّك»، تتواتر أحداثُها الجسيمة، لكنْ آخر الأمر لا يحدث شيء البتة، وتنتهي حليمة عند قديمها الذي بدأت منه. يغيب عن هذه الدراما الناسُ، سوى كضحايا للمجازر والخراب، عناصر كومبارس في فيلم آكشن، يشغلون الخلفية حتى تنتهي المشاهد.

تتنوّع الخلُاصات التي يخرج بها مجتمع «الخبراء» هذا من هذه التعويذة بدرجة أو أخرى، بحسب الاختيار أو المزاج الأيديولوجي، لكنَّ قاعدةَ هذه الخلاصات في أحيان كثيرة وليس في كلّها، متى قَبِلْنا ببعض الماركسية المُبتذلة، حافزٌ قليلُ السّتر من المصالح المهنية. انتهى العالِم بشؤون السودان آلكس دو ڤال، في كلمةٍ له، والحرب بعدُ في شهرها الأول، إلى شماتةٍ ظاهرة، فقال: الحرب حسابٌ على مائتي عام من تاريخ الخرطوم المدينة في السَّلْب الجَشِع، حسابٌ على فظائع نَسَبها لأحفاد الزبير باشا، وقال: حوَّلوا كلّ ما هو خارج الخرطوم إلى «قحط اجتماعي واقتصادي». قد تتساءل القارئةُ إذا كان من الإنصاف اختزال تاريخ مائتي عام من الحياة الحضرية بعُمرانها وصراعاتها في هذا التصوّر المُبتذل للتاريخ، أو إذا كان من الإنصاف نسبةُ ملايين النفوس، وفيهم المُحسِنة والمُناضِلة والدّاية والمُعلِّمة الله يزيدها، والركّع والسّجود؛ إلى بطَل مُضادٍّ من القرن التاسع عشر. أمّا نعتُ كُلِّ ما هو خارج الخرطوم بالقحط الاجتماعي والاقتصادي، فعبارةٌ درامية من خارج التاريخ، وتستحقّ القارئةُ تفسيراً لركل نيالا، ثاني أكبر مدينة في البلاد وعاصمة دارفور الفاشر، ومدن الجزيرة الناعسة، وغيرها، تحت القطار المَرَّ. أما المقارنة، فإنها تفتح الباب للتساؤل عمّا يَنتظر مثل لندن، عاصمة الإمبراطورية البريطانية حتى غربت شمسها، من حسابٍ متى أخَذْنا بفلسفة آلكس دو ڤال للتاريخ.

أعاد كريز في كلمته تمييزاً تكرَّرَ على لسانه، وعلى لسان غيره بين غرف الطوارئ ومُناضلي لجان المقاومة، الذين تسلّحوا للقتال «إلى جانب الإسلاميين الذين سبق وأزاحوهم عن السلطة»، بعبارته؛ لكنه لم يتطرَّق في تمييزه إلى موضوع القتال ولا غرضه، فلا قال عن ماذا يحاربون أو من أجل ماذا. والتمييز ساقطٌ متى ما أخذْتَ بحقيقة أنَّ المتطوِّع بغير سلاح، والمتطوِّع بسلاح، مدفوعٌ بضرورةٍ حاكمة، ضرورة مقاوَمة الانقضاض الباطش للدعم السريع وأوليائه على كامل التكوين الاجتماعي

أما جوشوا كريز، وزميلتاه، فاحتجّوا بمصحف المجاعة أو تهديدها على الأسِنَّة، أنّ «سيادة» السودان انتفت، ولم يبقَ منها سوى سلطان القوات المسلحة، والواجبُ التغاضي عنها، وابتدارُ تدخّلٍ إنسانيٍّ عظيمٍ لإنقاذ السودانيين من أنفسهم، وذلك من عاصمة إقليمية، ربما نيروبي، وقالوا مهيَّئة تطيبُ لهذا الغرض. عاد كريز إلى القضية ذاتها في كلمة أخيرة، وقال هذه المرّة إنّ سيادة السودان خواءٌ كخواء القصر الحطام على النيل. احتفى كريز مُحِقّاً بمُبادرة ونجاعة غرف الطوارئ في التصدّي لمهام الطعام والعلاج في غياب الدولة، التي قال: طارت سيادتها. والغرف ليست وحدها، فهي طرفٌ من أرخبيلٍ للتضامن والعون المتبادل لا يُدركه مجتمع «خبراء السودان»، ولا تُدركه صناعة العون الإنساني الدوليّة، لأنه لا يَنطق برطانة «المنظّمات غير الحكومية»، ولا يَعتمد على مال «المعونة الأمريكية». ويقوم هذا الأرخبيل على تنظيم تَغلِب عليه ديمقراطية أفقية، مثله ولجان المقاومة؛ فهي من هذه الخبرة الاجتماعية التي تضمُّ الأسرة الممتدّة وخُوَّة الحي ونفير الحِلّة والقرية والطرق الصوفيّة ومجتمع المَسِيد وهيئات التجّار والمزارعين وروابطهم وعصبيّة المهنة والدفعة، ووجوهاً أخرى وتشكيلاتٍ للتنظيم «المدني»، سارت عندنا تحت عنوان «الأهْليّة» قبل أن تنطلق فينا رطانة «المجتمع المدني». وهي صورٌ للتضامن والعون والصمود، أسبَق على الدولة مقطوعة الطاري وأعمق منها، والله وكيل الغافلين.

أعاد كريز في كلمته تمييزاً تكرَّرَ على لسانه، وعلى لسان غيره بين غرف الطوارئ ومُناضلي لجان المقاومة، الذين تسلّحوا للقتال «إلى جانب الإسلاميين الذين سبق وأزاحوهم عن السلطة»، بعبارته؛ لكنه لم يتطرَّق في تمييزه إلى موضوع القتال ولا غرضه، فلا قال عن ماذا يحاربون أو من أجل ماذا. والتمييز ساقطٌ متى ما أخذْتَ بحقيقة أنَّ المتطوِّع بغير سلاح، والمتطوِّع بسلاح، مدفوعٌ بضرورةٍ حاكمة، ضرورة مقاوَمة الانقضاض الباطش للدعم السريع وأوليائه على كامل التكوين الاجتماعي، على بيتنا وشارع بيتنا. بل ويَصعُب تمييز المتطوِّع بغير سلاح والمتطوِّع بسلاح، من حيث التركيب الاجتماعي، فهذا هو ذاك، تتطابق نفوسُهم. وربما أسعَفَ القارئةَ الاعتبارُ في هوية «الإسلاميين» في هذا السياق، فهل العشرينيّ الذي يلهج بعبارة «إسلامية» وهو يُجابه موتَه مقاتلاً إلى جانب مُناضلي لجان المقاومة المُسلّحين هو صورةُ كرادلة «المؤتمر الوطني»، من أطاحت بهم الثورة في 2018/2019، وآلةِ ألاعيبهم السياسية، وقد أحال العديدُ منهم نفسَه إلى المعاش في إسطنبول يلوك ما مضى اجتراراً، «الدنيا ليل وغربة ومطر». أهذا تاريخٌ إذن سيدتي أم جَرْ هَوَا؟

بطبيعة الحال، لا يمكن لوم الدكتور آلكس دو ڤال، ولا الأستاذ جوشوا كريز، ولا سواهما من مجتمع «خبراء السودان» على القنوط من السودان وأهله من موقع المُراقب، فالحالة صعبة. تجرَّأ سواهم، لكنْ على أكثر، وذهبوا خطوةً أبعد في القنوط، فقالوا ما يفيد ألّا خلاص سوى بيد المجتمع الدولي القوية، دَعْوتُهم جهراً وسرّاً إلى تدخّل دولي عسكري في السودان بتَمُومَة جِرْتِق ديمقراطيةْ كرزاي أو عدة كرزايات، فهذا سبيلُهم لإنقاذ السودان من نفسه. وبعبارةٍ أخرى حرب أعظم وأشدّ.

شَغَلَتْ هذه المجلة نفْسَها، منذ قامت، بالبحث والتقصّي في كُلِّ خطوةٍ لأهل السودان أسياد أنفسهم في الاتجاه المُضاّد، كلّ خطوة للتضامن والعون المُتبادَل والصمود والمُكابدة، بما في ذلك من تناقضات وتحوّلات، وهم يقاومون جبروت حمْلة إخضاعٍ عابرة للقارات. والحقُّ الاحتفاءُ والبشارةُ بكُلِّ مُزارعٍ استعاد الإنتاجَ وبلَغ بالطعام السوقَ المُتضايق، وكلّ عاملٍ يَصُبُّ عَرقه في إعادة تشغيل المويه والنور مُجازفات، وكلِّ مهنيٍّ يقوم على الجرحى والمرضى بما تيسّر، وكلِّ متطوِّع في تكية ومطبخ، وكُلِّ كِسِّيب بالحلال أخرَجَ من مالِه قليلاً أو كثيراً لصيانة الأسرة والجيران والحبّان والمؤسسات، وكلّ مقاتل قامَ بسلاحه ضدّ قوى الخراب التي تفتك بأهلك. ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى