عبدالعزيز يعقوب- فلادليفيا
في كل حرب، ترتفع أصوات تدعو إلى السلام، لان الحرب ظرف استثنائي وغير طبيعي بينما يتواصل صوت القتال في الخلفية. يبدو شعار “لا للحرب” أو إعلان هدنة كنافذة أمل للمخلصين، لكن التاريخ يعلّمنا أن هذه الكلمات، إذا جاءت بلا شروط واضحة، وآليات تنفيذ دقيقة، وجدول زمني محدد، يمكن أن تتحول إلى أداة خداع استراتيجية. فالهدنة غير المنظمة ليست بالضرورة طريقًا للسلام، بل قد تكون مجرد استراحة محسوبة يُعيد فيها طرف ترتيب صفوفه وتحسين موقعه قبل استئناف المعارك.
التجارب التاريخية كثيرة ومؤلمة. في الحرب الكورية عام 1951، عُقدت سلسلة من “وقف إطلاق النار المؤقت”، لكن غياب الرقابة الدقيقة سمح لكل طرف بتحسين مواقعه الدفاعية وإعادة تموين خطوطه الخلفية، حتى وصفت بعض الوثائق الهدنة بأنها “حرب صامتة تُدار بالمجارف لا بالبندقية”. وفي حرب فيتنام، استغلت قوات الفيتكونغ هدنة عيد الميلاد لإعادة الانتشار في دلتا ميكونغ، ما منحها الوقت الكافي لإعادة ترتيب الخطوط الخلفية رغم قلة المدة المعلنة للهدنة.
وفي حرب أكتوبر 1973، فرضت الأمم المتحدة هدنة لإنهاء القتال، لكن عدم وجود آليات واضحة للرقابة سمح لإسرائيل بإعادة ترتيب قواتها وتحسين مواقعها في الجبهة الغربية بسرعة، ما قلب ميزان القوة خلال أيام قليلة. كذلك، شهدت حرب البوسنة التسعينيات عدة هدَن إنسانية بلا آليات عملية دقيقة للتنفيذ والمتابعة، مما سمح للقوات بإدخال ذخائر جديدة وتغيير انتشارها في المناطق الاستراتيجية دون أن يلاحظها أحد، ليتحول الصمت الظاهري إلى ساحة معركة بلا انفجارات.
توضح هذه الأمثلة حقيقة بسيطة أي هدنة أو شعار “لا للحرب” بلا شروط واليات تنفيذ واضحة، و مراقبة دقيقة، وجداول زمنية ملزمة، ليس سوى باب مفتوح بلا حارس. قد يكون مدخلاً للسلام، وقد يكون ممراً للخديعة الاستراتيجية التي تهدف إلى إطالة الصراع أو قلب موازين القوة. فالسلام الحقيقي لا يُبنى بالنيات وحدها، بل باتفاقات تُغلق كل الثغرات التي قد يستغلها طرف ما. أما إذا تُركت الهدنة بلا آليات، فإن الحرب لا تتوقف فعليًا؛ هي فقط تغير شكلها من هدير المدافع إلى صمت المناورة، وتستمر الخسائر على الأرض، لكن بصمت أخطر.
يبقى الدرس الذي يكرره التاريخ الكلمات الجميلة لا تكفي.”لا للحرب- سلام- هدنة” لكن بلا شروط تنفيذ صارمة، بلا آليات مراقبة، وبلا جدول زمني واضح وبلا اجماع سياسي، هي جزء من اللعبة نفسها، وليست طريقًا إلى السلام. إن السلام الحقيقي يحتاج إلى التزام واضح، وضوابط دقيقة، وإرادة حقيقية لإنهاء الصراع، وإلا فإن شعار “لا للحرب” قد يتحول بسهولة إلى خدعة استراتيجية يستخدمها طرف متمرد، يتخفّى وراء شعارات إنسانية ليكمل حرب الوكالة بصمت مع تواطؤا اجنبي تتكشف حلقاته يومياً.
