رأي

“لا للحرب” حين تتحول الشعارات إلى غطاء للانهزام والانكسار

راشد شاويش 

منذ اندلاع هذه الحرب في السودان، لم تكن هناك لحظة واحدة لم نرَ فيها الوجع، لم نسمع فيها بكاء الأرواح ولا أنين الأمهات، لم نشهد فيها تهجيرًا ودمارا وانهيارا شاملاً للحياة.

لكن وسط هذا الطوفان من المعاناة، ظهر صوت غريب… صوت يعلو حين تتراجع المليشيا، ويخفت حين تتقدم. شعار “لا للحرب” لم يعد بريئا كما يبدو، بل صار – في كثير من الأحيان – شعارًا مغلفًا بالخوف، وأحيانًا بالخيانة المقنعة.

دعونا نواجه الحقيقة بلا مواربة:

لم نبدأ هذه الحرب.

لم نختر توقيتها، ولا جبهاتها، ولا أدواتها.

ما حدث هو هجوم غادر من مليشيا الدعم السريع، مدعومة إقليميا، استيقظ عليه السودانيون فجر يوم رمضاني بدم ودمار.

لقد دخلوا البيوت، نهبوا المحلات، دمروا المؤسسات، اغتصبوا النساء، قتلوا الأطفال، واستباحوا العرض والأرض.

ولم يأتِ هذا الهجوم من فراغ… بل كان نتاج تخطيط طويل المدى لتحويل السودان إلى دولة تابعة، ضعيفة، محكومة بالوكالة عبر مليشيا مرتزقة لا ولاء لها إلا للمال والسلاح والدول التي تموّل مشروعها التخريبي.

فهل حين نتحدث اليوم عن “إيقاف الحرب”، نقصد حقًا السلام؟

أم نقصد التوقف عن مقاومة هذا المشروع، وتركه ليتمدد ويكتمل؟

وهل هناك منطق يدفع شعبًا تعرض لمثل هذا الغزو الداخلي أن يرفع الراية البيضاء؟

بل هل هناك مثال واحد في التاريخ، سلم فيه شعبٌ بلاده للمليشيات، ثم نال بعدها السلام والكرامة؟

الحرب ليست خيارنا، لكنها صارت قدَرنا حين أرادوا إذلالنا.

هي معركة وجود، لا معركة حدود.

إما أن ننتصر لوطننا، أو نخسره إلى الأبد.

اليوم، حين نسمع من يقول “لا للحرب”، لا بد أن نسأل:

ما البديل؟ هل نستسلم؟ هل نسلم الخرطوم؟ نترك بورتسودان؟ هل نرضى بتقسيم الوطن، ونصمت أمام الطائرات المسيّرة التي تضرب مدننا؟

هؤلاء الذين ينادون بوقف الحرب دون المطالبة بنزع سلاح المليشيا، ومحاكمة قياداتها على الجرائم التي لا تسقط بالتقادم، هم في الواقع يطرحون علينا خيارين:

إما الذل والاستسلام، أو الانفصال والتمزيق.

ولا واحد منهما يمكن أن يُقنع شعبًا مرّ بمثل هذه التجربة المريرة.

والأخطر من ذلك هو ما بدأ يتكشف في الأشهر الأخيرة:

ظهور أصوات تدافع عن المشروع الانقلابي للمليشيا، وتبرر أفعالها، بل وتروّج لسردية “السودان الجديد” الذي سيُبنى من مناطق سيطرتهم، وكأنهم لم يهزموا في الخرطوم، ولم تُقطع خطوط إمدادهم، وكأن الناس لم ترفضهم بالآلاف في المدن والقرى، وكأن الدم لم يُسفك بعدد ما يشبه المجازر.

المعركة الآن ليست فقط عسكرية… بل فكرية وأخلاقية.

إما أن نقف مع الحق الواضح، وهو بقاء السودان واحدًا حرًا مستقلًا، تقوده مؤسسات شرعية أهمها الجيش الوطني.

أو نقف مع الحياد الكاذب، والتخاذل، الذي لا يؤدي إلا إلى تمكين الباطل وإعادة تدوير الجريمة.

إن من يسأل: “كيف نوقف الحرب؟”، عليه أولًا أن يسأل:

“كيف نُعيد حق الأمهات؟ كيف نُعيد الأرض المسروقة؟ كيف نمنع دعمًا خارجيًا مسمومًا يحاول أن يصنع من السودان دولة بالوكالة؟”

الإجابة ليست في الاستسلام.

الإجابة في دعم جيشنا، رغم أخطائه، لأنه في نهاية المطاف هو المؤسسة الوحيدة التي تقف اليوم سدًا منيعًا أمام سقوط السودان في أيدي من لا يرحم.

نحن لا نمجّد الحرب، ولا نبحث عنها، بل نريد أن تنتهي منذ أول طلقة.

لكننا نعلم – من تجارب العالم والتاريخ – أن السلام لا يُمنح، بل يُنتزع بعد أن يُكسر ظهر الباطل.

اليوم، لا مكان للحياد.

إما أن تصطف مع السودان، أو مع مشروع تمزيقه.

إما أن تدافع عنه، أو تسكت وتنتظر أن يُدار من أبوظبي.

لنكن واضحين مع أنفسنا:

الشعب السوداني كله ضد الحرب. لكن لن يكون أبدًا ضد الدفاع عن الوطن.

والصوت الذي يجب أن يعلو الآن ليس “لا للحرب” فقط، بل “نعم للدفاع، نعم للكرامة، نعم لوطن لا يُباع”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى