كن رواقياً إن شئت!

د. الخضر هارون
والرواقية فلسفة يونانية قديمة جاء بها زينون الرواقي في القرن الثالث قبل الميلاد ومحورها الأسمي الفضيلة وجعلها قاعدة صلبة يقوم عليها نشاط الفرد والمجتمعات . ومن سماتها تحقيق الذات بالطمأنينة الداخلية والتصالح الداخلي وبه يحقق المرؤ مراده بتحكيم العقل والمنطق وتجنب الانفعال والتوتر والتهور والتمنيات ويستلزم ذلك قبول ما لا يمكن التحكم فيه من العوامل الخارجية عصية التحقيق بحيث لا يذهب عدم الإمكان عليها إلي اليأس الذي يذهب بالسعادة والسلام الداخلي مع العزم الرزين علي التغلب عليها عندما تتيح الظروف .
وذلك مدار الحديث في هذه الخاطرة التي لا يستبطن عنوانها هذا ،دعوة للانخراط في فلسفة ذهبت في الدهر وتفرقت أجزاؤها علي فلسفات متعددة كما يتفرق الدم بين القبائل بفعل التزويج والمصاهرات علي مر العصور .ومن طبائع الأشياء أن يبقي من الافكار والفلسفات العظيمة ما هو أنفع للناس ويبقي من أقلّها شأنا و نفعاً بعض الفرقعات وبعض الأحاديث والذكر . وأهم ما يبقي من كل فلسفة قويمة حرصها علي كرامة الإنسان واعتداده بإنسانيّته في سعيه لكسب العيش ذلك تعلمه الناس بحكم الكد وطول التجريب ، فأبقت عليه الأديان السماوية في صميم تعاليمها الخالدة لما فيه من عزم واستقامة هي صنو العيش الكريم تعاف البهارج الفارغة والصيت المصطنع والسمعة وفيه أيضاً عزاء ومواساة ضرورية لاستمرار الحياة بالتأسي ولعق الجراح حتي لا تضيع الأنفس في خضم الحسرات .
وهذا بعض خير اشتملت عليه الرواقية وتميزت به وهو يواف بعض معان القناعة ورضا النفس دون استكانة تكون شرطا لذلك.
والناس قد اهتدوا بفعل التجربة عبر الصراع مع الطبيعة ومع بعضهم بعضا عند قيام المجتمعات مضطرين إلي بذل الجهد العقلي لابتكار مقومات للعدالة وبسط العدل وأكملت أديان السماء مسعاهم بتأطير مكارم الأخلاق وألزمت الناس بها وبالجنوح إلي السلم والانصراف لعمارة الأرض إلا لمن ظلم وتفضيل الإيثار علي الأثرة واطراح الشح وعبادة الذات. لكن ظل التراب يشد البشر بالرغائب إلي الأرض بعيدا عن السماء ونفحتها التي ميزته عن سائر المخلوقات وظل الزهو بالعظمة والبهارج وإذلال الغير أبرز سمات التاريخ الإنساني . لذلك تعبت الفلسفات وحارت في تفسير ذلك وتراوحت بين التفاؤل والتشاؤم في تفسيره والغريب أن فكرة العقد الاجتماعي في السياسة التي قفزت بمفهوم كرامة المحكومين ،استندت علي هذين النقيضين فتوماس هوبز تبني نظرة تشاؤمية تقوم علي قاعدة أنانية الإنسان ورغبته الاستحواذ علي مافي أيدي الناس وأن ذلك يجعل الجميع ضد الجميع لذلك يصبح التراضي بأن يتنازل كل واحد منهم عن بعض حرياته ولإقامة سلطة تحميهم من تغول بعضهم علي بعض شرطا ضروريا لحياتهم أجمعين . وهكذا نشأت فكرة العقد الاجتماعي . وورث الفكر السياسي من هوبز من الرؤي ما يعرف بالواقعية في هذا العصر وهي انطلاقا من ذلك التوجس القديم تعتبر الحرب والتحسب لها هو القاعدة وفترات السلام استثناءات لتلك القاعدة.بينما ظن جان جاك روسو غلبة الخير علي الناس وأن كل فرد منهم ولد حرا لكن المجتمعات هي التي تعتدي علي حرياتهم لذا لزم إبرام عقد بينهم يحمي حرياتهم ويمكنهم مجتمعين من اختيار حكامهم أسموه أيضاً العقد الاجتماعي. وينسب النظام الدولي الليبرالي القائم حالياً والذي بدت عليه علامات الضعف والشيخوخة ،علي القانون والمعاهدات لميرات جان جاك روسو . وفي أثر الرجلين تطور الفكر الديمقراطي حتي تأسست النظم الديمقراطية.
جاء عصر النهضة ثم الثورة الصناعية التي قفزت بالبشرية قفزات هائلة علي كل الصعد ،عززت التفاؤل فقامت فلسفات متفائلة كالحداثة وبعضها مستمد من ديالكتيك هيقل المثالي القائم علي فكرة المطلق وهو الله ، وفلسفة هيقل تري ان البشرية تمضي قدما نحو الكمال الانساني . ثم في اثرها جاءت الماركسية ونزعت عن مثالية هيقل رداء التفاؤل مؤقتاً واستبدلت ديالكتيك الرؤي بديالكتيك الصراع المادي العنيف بين الطبقات الذي سيفضي لتفاؤل ونهاية سعيدة لصراع الطبقات ونهاية الدولة المتسلطة وتحقيق المساواة للجميع.
لكن بقيت الأثرة سيدة علي الإيثار والقوة هي وسيلة ذلك فاقتتل الأوربيون كما لم يقتتل جنس من الشعوب وفي قرن واحد هو قرن الاستنارة ،القرن العشرون، طال تقتيلهم لبعضهم البعض فبلغ نحو أحد عشر مليونا في الحرب العالمية الأولي وفي الحرب الثانية التي تلتها بنحو عقدين فقط نحو خمسين مليوناً بدوافع عنصرية بغيضة وأيدولوجية متطرفة .فأين الاستنارة؟ واستعر أوار العنصرية وفشا علم تبديل الجينات للحصول علي أطفال بمواصفات بعينها ( يوجنكس) وفشت الأصولية الافانجيليكية واستمرّ البشر في سفك الدماء كعهدهم الأول أيام المغول والتتار والبرابرة لا فرق .وكانوا قد تفانوا بالاقتتال او كادوا في القرن الذي سبق باسم الدين .وبدعوة من بسمارك تحول الاقتتال و الصراع بينهم في الربع الأخير من القرن التاسع عشر تداعوا إلي العالم الفقير في أفريقيا وآسيا والكاريبي تداعوا الأكلة إلي قصعتها هجوما كاسحاً علي ثروات العالم الفقير .وكان قد سبق تلك الهجمة هجمة استرقاق الأفارقة لإنتاج السكر والنسيج الذي حقق رفاها وغني فاحشا في أوروبا وأمريكا لم يسبق له مثيل.
واقترح ودرو ويلسون وهو رئيس أمريكي ساهم في تأسيس عصبة الامم التي لم تصادق بلده علي الانضمام إليها واقترح منح حق تقرير المصير للمستعمرات ثم إقامة المنظمة الدولية التي ترعي السلام العالمي عبر القوانين والمعاهدات الشفافة التي يطلع عليها الجميع رغم أنه مع كونه أكاديميا مرموقا ورئيسا لجامعة برنستون العريقة في الشمال ،كان عنصريا من جنوب الولايات المتحدة. تبني الحلفاء المنتصرون في الحرب الثانية فكرة المنظمة الدولية فكانت الأمم المتحدة ومؤسساتها ومحكمتها الدولية التي جعلت أعضاءها متساويين في السيادة أمام القانون الدولي ولكن كما قال جورج أورويل في روايته (حديقة الحيوان ) متساوون نعم ولكن بتفاوت وزيادة ،جعلت للخمس الكبار المؤسسين دون غيرهم الحق لأي منهم حق ابطال قرار ١٤ عضوا آخرين يفترض أنهم متساوون مثله! والمساواة هنا كالحبر علي الورق فأين هي من الأساطيل وحاملات الطائرات والقنابل القادرة علي محو الجنس البشري من علي البسيطة، تلك هي السيادة كما ظلت رهينة القوة كما كان حالها من قديم.والقانون الدولي نفسه يطبق علي البعض دون البعض. فإسرائيل ظلت أمريكا تحجب عنها الادانات والقرارات وحتى التي صدرت لم ينفذ أي منها. بعض الدول تملك أسلحة الدمار الشامل والبعض الآخر حرام عليها وكونت وكالة لمنعها من ذلك. هذا هو العالم المتحضر الذي يقف اليوم علي شفا حرب مدمرة شاملة قد لا تترك حيا إن اندلعت.
نحن في السودان دولة يفترض أنها متساوية مع بقية الدول من حيث السيادة علي أراضيها وتحريم التدخل في شؤونها الداخلية وأنها ذات حق في حماية الأسرة الدولية لها إن تعرضت لعدوان . لكننا نتعرض لعدوان منذ أكثر من عامين تستخدم فيه دولة صغيرة هي الإمارات ومن ورائها دول أخري مليشيا قبلية كانت في الأصل جماعات نهب مسلحة والعالم المتحضر يتفرج علي وسائط الاتصال ،علي الملايين يهجّرون عنوة من دورهم وتغتصب بناتهم ويقتل الألوف منهم وتحرق مستشفياتهم وجامعاتهم وحتي الدول التي نتمتع بعضويتها بحكم الجغرافي أو الحضارة المشتركة تري معاناتنا غير المسبوقة فلا تجرؤ حتي علي الإدانة الصريحة بمجرد القول لا الفعل.
الصفقات أصبحت هي التي تدير العلاقات الدولية وليست القوانين الدولية ، والحرب الحالية من أقسى الدروس التي مرت علي الأحياء من أهل السودان وهي تجربة جديدة في التآمر الدولي لتقويض ما يمكن تقويضه من الدول أرضا وشعبا وثروات وهي تجربة قابلة للتكرار إن نجحت. ويلزم النظر إليها بهذا الفهم والتصدي لها به كذلك.
والمواساة للموحدين من أهل الإيمان تكمن في إخلاص التوحيد والإعتماد بعد الله على النفس والزهد فيما عند الناس وعدم التعويل علي عونهم. والذين لا تبلغ عندهم درجة الإيمان إخلاص التوحيد للواحد منهم أن يكون رواقياً واقعياً يقبل العالم بكل نواقصه وظلاماته وظلمه دون أن ييأس أو يستسلم فبين جوانحه جذوة غريزة البقاء وحب الحياة الحرة الكريمة التي لا تنام علي ضيم فليشحذ قواه للمقاومة مع الصبر والأناة والثقة في النصر آخر المطاف فالرجل إن قاتل فقط ليستعيد داره أو يحمي ذماره أجازت ذلك شرائع الارض والسماء. والرجل يقاتل حمية ويقاتل ليري مكانه وكل تلك طرائق للبقاء علي قيد الحياة وبعزة وكرامة. نعم كن رواقياً أو ملحدا لا يؤمن بما فوق الحواس، كن ما شئت أو كن كما تكون فلن يسقط ذلك عنك تبعة ومسؤولية أن تفعل شيئا تقدر عليه من أجل بلدك وأهلك فذاك من أقدس الواجبات وأولاها بالأداء لا يصرفنك عنها صارف!
نقلا عن موقع “المحقق”