أمجد فريد
تأتي هذه الكتابة في سياق التناول المباشر لما كتبه الباشمهندس خالد عمر يوسف رداً على فضح أطروحة السردية البديلة التي يحاولون إنتاجها وترويجها في سياق تبرير حرب المليشيا. والتي استعاض فيها عن الإشارة المباشرة بالاستمرار في الترويج لأكاذيبهم التي يبثونها عن أبواق الحرب وما إلى ذلك من أوصاف يحاولون بها التغطية على تهافت منطقهم وموقفهم في تبرير حرب المليشيا. ولكن لا بأس، فأيضاً سنرد عليه كما يستحق الرد، لأن القضية متعلقة بوطن ليس لنا غيره ونتقاسم ملكيته جميعنا، وحرب نطمح إلى إيقافها فعلاً، وليس بتجيير الدعوة إلى وقفها لخدمة مصالح أو أهداف سياسية داخلية أو خارجية أخرى.
سردية ربط هذه الحرب التي تجري بين قوات الدعم السريع وقوات الجيش السوداني بثورات الهامش -السلمية منها والمسلحة على حد تعبير خالد- هي سردية متهافتة تحاول إيجاد مبرر أخلاقي لحرب المليشيا في سياق الارتباطات الداخلية والخارجية التي تجمعهم بها. وتهافتها لا يحتاج إلى كثير من الحبر لتعريته، فجرائم وانتهاكات الدعم السريع المستمرة ضد مجتمعات المساليت والزغاوة وغيرهم من مجتمعات الهامش السوداني والتي شملت التهجير المنظم والقتل الجماعي والاغتصاب والاستعباد الجنسي والاضطهاد وحصار التجويع وغير ذلك كفيلة بتعريتها لوحده، وعندما نضيف إليها ما ظلت ترتكبه المليشيا من انتهاكات في أرياف الجزيرة وأحياء الخرطوم المختلفة، نجد أنفسنا في مواجهة منظومة إجرامية متكاملة الأركان. ذلك ناهيك عن أن الثورة التي ظللنا نعمل من أجلها هي تراكم فعل جماعي يهدف لتحقيق مصالح جمعية لأهل السودان، وليس لنهب وتشريد واغتصاب وتهجير فئات اجتماعية بعينها في السودان. الثورة فعل بناء إيجابي وليست ممارسة للانتقام وبالتأكيد ليست لممارسة الإجرام الذي شهدناه عياناً بياناً من مليشيا قوات الدعم السريع.
محاولة تصوير الدعم السريع كأداة عمل ثوري أو جرائمها وأفعالها في خضم هذه الحرب كخطوات في طريق الإصلاح الهيكلي لمؤسسات الدولة-ومنتجات دولة ما بعد الاستعمار (حمدلله على السلام) – هو سعي حثيث في إطالة أمدها وبالتالي إطالة أمد المعاناة المترتبة عليها والناتجة بشكل أساسي من الانتهاكات التي ترتكبها المليشيا. وكما أن إيقاف الحرب لن يحدث عبر الدفاع عن الأطراف التي تخوضها أو محاولة الإبقاء على أشكالهم المؤسسية الحالية.
التعريف الصحيح لهذه الحرب أنها تدور بين طرفين سيئين، كلاهما من منتجات دولة الاستعمار التي أنتجت أيضاً النظام الصحي في السودان وجامعة الخرطوم ومدرسة خورطقت الثانوية، وهذه مؤسسات دولة تحتاج إلى إصلاح، وفسادها وانحرافها عن أداء الأدوار الموكلة لها لا يتم إصلاحها باستبدالها بقطاع خاص. وكذلك الجيش، والذي هو مؤسسة دولة تحتاج إلى إصلاح لأداء دوره المطلوب منه، وهذا لا يحدث باستبداله بمليشيا قطاع خاص، مملوكة لفرد واحد وأفراد أسرته، وذات امتدادات اقتصادية وخارجية وسياسية ناهيك عن طبيعتها الفاشية المتأصلة فيها، منذ تأسيسها كأداة قمع وإجرام في خدمة نظام ثرنا لإسقاطه ومحو آثاره. واندلعت الحرب في ١٥ أبريل ٢٠٢٣، عندما حاولت هذه المليشيا الاستيلاء على جهاز الدولة بأكمله للذود عن استمرار بقاءها المؤسسي المستقل (وهو بعض مما أورثنا إياه نظام البشير المخلوع وعجزنا في ظل تجاذب حكومتي الفترة الانتقالية عن إصلاحه) بكل ما يوفره لها هذا الاستقلال المؤسسي من امتيازات لا تخدم الشعب السوداني في شيء، بل يتم تسخيره لخدمة محاور ومصالح إقليمية، لم تتوانى في دعم استمرار هذه الحرب.
هذه الحرب لا تدور بين طرف نبيل يمثل الهامش وطرف شرير يمثل المركز. هذه الحرب تدور بين طرفين سيئين، مليشيا ذات طبيعة فاشية مجرمة تعتمد على العنف والقهر والإجرام المنهجي والتغنيم والتجنيد العابر للحدود لخدمة مصالحها ومصالح رعاتها الإقليميين، ومؤسسة جهاز دولة فاسدة، تحتاج إلى إصلاح عميق وهيكلي. محاولة تجيير تعقيدات التاريخ السياسي في السودان لإيجاد تبرير لهذا الطرف أو ذاك هو مشاركة في إطالة أمد الحرب عبر (دغمسة) التشخيص الواضح لطبيعة الأزمة في السودان. وهذا التشخيص المدلس لا يختلف عن ما تنشره المنصات المحسوبة على تحالف تقدم من نشر للأكاذيب وتدليس للوقائع بإفراط مدهش، فالفاشية معدية بطبيعتها، وممارسة الهيمنة الإعلامية أحد خصائصها المحددة.
خالد عمر لا يمارس هذا التدليس سذاجة منه ولا جهلاً بحقيقته ولكنه ينفذ في خط سياسي يضر بالسودان والسودانيين وبقاء الدولة السودانية. وهذا خط سياسي يجب محاربته من أجل إنهاء هذه الحرب والحفاظ على وجود بلادنا واستقلالها. الاستسلام لمثل هذا التحليل الفاسد، يطمح لفرض واقع لقسمة سلطة جديد بين أولئك الذين يحملون السلاح وحلفائهم وهذا هو اسوأ ما يمكن أن يحدث لمستقبل السودان. وإصلاح المؤسسة العسكرية -وكافة أجهزة الدولة- لا يحدث عبر دمج العناصر الفاسدة مع بعضها البعض في مزيج فاسد كبير… هذا بله مفرط سيسمم صاحب الدعوة إليه أولاً. وكما أن اختزال عملية الإصلاح الأمني العسكري في مجرد دمج القوات وتوحيد قيادتها، ليس صحيحاً ولن يؤدي إلى غير المزيد من الانقلابات العسكرية ومزيد من عسكرة الحياة وتمليش القمع والمقاومة.