أولاد الاُسر وأولاد الكلب!

غرباً باتجاه الشرق
مصطفي عبد العزيز البطل
كتبت أولا، في محاولة لتفادى سيرة الكلاب، و تفاديا للشطح والشطط في التعبير: ( أولاد الذوات و أولاد الإيه )، و هى عبارة سمعتها مرارا عند أصدقائى من بنى بَمْبَة، ولكنني تذكرت أن صحيفة ( الأهالي ) المصرية اليسارية تتخذ من نفس الجملة عنوانا لواحدة من أكثر مساحاتها التحريرية طرافة و شهرة، و ليس أبغض إلي نفسى من الإستنان بالسنة البائسة لبعض خاملى الخيال من السودانيين في تقليد العناوين و المسميات و إستيرادها من الدول العربية، فى كل المجالات إبتداءً من أسماء الصحف وإنتهاء بأسماء الأحياء السكنية. ثم كتبت ( أولاد الأسر و أولاد البدون )، و البدون صفة قانونية تستخدم في الوثائق الثبوتية لأمارة الكويت ( الشقيقة ) و تُطلق على بعض المواطنين العرب الذين ظلوا مقيمين هناك لعشرات السنوات، كمواطنين من الدرجة الثانية، دون جنسية أو إنتماء معترف به. و قد إمتد نطاق البدون لاحقا الي دولة الامارات المتحدة ثم دولة قطر، التى قام أميرها قبل عامين بسحب الجنسية و إمتيازات المواطنة من قبيلة كاملة، فأصبح جميع أفراد القبيلة بين طرفة عين و إنتباهتها ( بدوناً )! غير أنه لا أجدنى علي يقين من أن غالبية السودانيين قد سمعوا بهذه الصفة الغريبة الوقع و المعني. و أخيرا توكلت علي الباقى الحيى و إنتهيت الي ما تري! و مهما يكن من أمر ( الكلب ) والنظرة السالبة الوضيعة له في مجتمعاتنا، شأنه في ذلك شأن ( الحمار )، فقد آن لنا، و نحن نكاد نطوي العُشر الأول من القرن الحادى و العشرين، أن نعيد تقويم نظرتنا لهذين الحيوانين الطيبين النافعين تقويما منصفا، و أن نرتفع بهما الي ما هما جديران به من لائق المكانة، كما هو الحال في المجتمعات الراقية المتحضرة التي تحترم الكلب و الحمار و تجلهما و تقدرهما حق قدرهما.
هذا ما كان من أمر العنوان، أما أصل الموضوع و فصله فقد أشعل جذوته في ذهني حوار من جزئين قرأته مؤخرا علي صفحات ( الأحداث )، مع اللواء (م) مزمل سليمان غندور، الذي شغل عدة مناصب دستورية خلال العهد المايوي، من بينها منصب وزير الداخلية. فقد سأل المحرر الذي أجري الحوار اللواء غندور عن خلفية إختياره للالتحاق بالقوات المسلحة عند بدايات مسيرته في الحياة العملية عند منتصف القرن المنصرم، فأجاب الرجل بأن إختياره تم علي واقع خلفيته الأسرية، و أضاف في صدد الإيضاح: ( الإنجليز كانوا يختارون أناسا محددين لوظائف معينة على أساس أن من يقع عليهم الإختيار لهذه الوظائف يجب أن يكونوا من أسر عريقة ). لماذا؟ يجيب اللواء غندور: ( لأن مثل هؤلاء لا يستغلون سلطاتهم عندما يصبحون في مناصب رفيعة ). ثم واصل اللواء ليقول: ( و الفيلسوف الإنجليزي هارولد لاسكي قال: السلطة تفسد، و السلطة المطلقة تفسد مطلقا ). و قد أدهشنى بعض الشئ تطوع غندور لتقديم الأسانيد التي تدعم رؤي المستعمر في شأن قصر وظائف معينة علي ( أولاد الأسر )، و ذلك بالاستدلال بالمقولة المنسوبة لهارولد لاسكى، عوضا عن تقريعه علي تبني هذا النمط من التفكير الاستعلائي. و لكنني فضلت طرد هذه الخاطرة و تجاهلها، و ألتمست فهما للأمر علي أنه محاولة من اللواء – علي طريقته – ليشرح للمحرر واقع و طبيعة العقلية التي كانت سائدة بين الاستعماريين الانجليز إبان سيادتهم علي السودان، و لم أجد في ذلك بأسا أو غضاضة. بل أننى تجاوزت عن خطأ معلوماتى ظاهر في إجابة غندور، على أساس أنه ضعيف الصلة بجوهر الحديث و محتواه، وهو أن قائل العبارة الشهيرة التي إستدل بها حول القابلية للفساد، ليس هو في حقيقة الأمر هارولد لاسكي، بل هو المؤرخ الإنجليزي اللورد جون أكتون، و لا بد أن بعضا من القراء قد تنبهوا الى ذلك الخطأ. و مما حفزني على غض البصر و التماس المعاذير للواء غندور ما شاع عن شخصيته، فى زمن مضى، من أنه لا يُحسن ” تمليس ” الكلام، في معني أن يجعله أملسا يسهل ابتلاعه. و أذكر عن الرجل أنه كتب قبل عشرة سنوات مقالا فى صحيفة حكومية إنتقد فيه بشدة سلوك الشبان و الشابات من طلاب الجامعات والمعاهد السودانية، فيما يتعلق بمظاهر الانحراف و الانحلال الأخلاقي، ووصف هؤلاء بنينا و بناتاً بأوصاف جارحة، و قدم مقاله إنطباعا شموليا بأن معظم الطلاب و الطالبات متورطون بدرجة أو بأخرى في مثل هذا الانحراف السلوكي. و قد أثار المقال في حينه ردة فعل واسعة و ردود مختلفة من كتاب كثر إستنكروا علي اللواء إخفاقه في ضبط كلماته و أوصافه بحيث تتناسب مع الخطر المعترف به و لكنه ليس قطعا بذاك الحجم المذهل الذى صوره. فكان لا بد من التصدى والمعالجة وضعا للامور في نصابها من حيث تحديد نطاق المشكلة و حماية سمعة بنات السودان. و كان من أشهر المقالات التى نشرتها الصحافة عهدذاك، في مقام التصدى لشطط اللواء، مقال لصديقنا الأستاذ أحمد كمال الدين، رئيس التحرير الأسبق لمجلة سوداناو بعنوان: ( شرف ربات الخدور عند مزمل سليمان غندور )!
غير أنني عندما عدت لمواصلة قراءة الحوار، و مضيت قدما في تقليب و تأمل إجابة غندور، الذي توسع و استفاض حول هذه النقطة، فوجئت بما بدا لي غاية في الغرابة، و هو أن اللواء ربما لم يكن في حقيقة الأمر يشرح وجهة نظر المستعمر، الذي صنّف المتقدمين الى الوظائف العمومية الي أولاد أسر عريقة و أولاد أسر غير عريقة ( حتى لا نقول وضيعة )، و إنما كان يعرض فكرة مكتملة يؤمن بها و بصلاحيتها و جدواها هو شخصيا. يُعضد من هذا المعنى أن اللواء إنتقل في معرض الحديث، من مرحلة الاستعمار الي مرحلة جديدة في التاريخ المعاش، وهي حقبة حكم الرئيس المصرى الراحل أنور السادات لمصر، مشيرا الي مفهوم ( العيب ) الذى كان قد أدخله السادات و أُكثر من إستخدامه و التلويح به في مواجهة خصومه السياسيين، خاصة في مرحلة ما بعد كامب ديفيد، حتى أنه – أى السادات – صاغ ذلك المفهوم في شكل قانون أسماه ” قانون العيب “، ثم أطلق علي نفسه – إتساقا مع القانون – لقب: ” كبير العيلة “! و يحدثنا التاريخ أن العديد من مفكرى مصر و مثقفيها أودعوا غيابات السجون تحت طائلة ذلك القانون العجيب. فقال غندور محتفيا بفكرة العيب: ( مفهوم العيب هو الذي يحمي المجتمع و الدولة و السلطة من أي تصرفات منحرفة ). و هذه العبارة – كما هو واضح – لا علاقة لها بالمستعمر، و لكنها تشير الى أن غندور يشرح و يتبني المفهوم الساداتي للعيب. ثم يُلحق غندور عبارته السابقه بهذه العبارة التوضيحية الكاشفة: ( و أولاد الأسر المعينة التي تخشي العيب عادة يتصرفون بطريقة صحيحة في حياتهم و في سلوكهم الشخصي ). و الصياغة تدل دلالة كاملة على أن عبارة ( الأسر المعينة ) في هذه الجملة من حديث اللواء، توازي عبارة ( الاسر العريقة ) في الجملة التي وردت في مقدمة أجابته السابقة، وهي الأسر التي يُحبذ أن يتم الإختيار من بين صفوف ( أولادها ) للوظائف العمومية الهامة التى يُعرّفها غندور على أنها الوظائف ( التي تتصرف في شئون البشر بدون رقيب الا من الشخص نفسه والله سبحانه و تعالي. و هؤلاء لازم عند إختيارهم أن تكون مطمئنا لهم )، وهذه أيضا من درر اللواء نقلناها بنصها و فصها من بين سطور الحوار المنشور.
و قد جاشت في صدري و عقلي مشاعر مضطربة و أنا أقرأ كلام اللواء مزمل غندور و أتعرف علي خبايا هذه العقلية السودانية المتفردة، ثم أتأمل حصاد ما قرأت. و ما لبثت الأسئلة حول مضمون و معنى و دلالات الحديث تنقر علي رأسى حتي خلت أن عفريتا يكاد يركبني، ففزعت من وعثاء التفكير و التأمل الي جهاز الهاتف مستنجدا بصديقنا الكاتب الصحفي الاستاذ فتحي الضو المرابط عند ثغرة هويتون من أعمال شيكاغو، فسألته عن المقابل اللغوي لعبارة ( أولاد الأسر ) التي وردت في حديث اللواء، وبعد جدل و معاناة في البحث إصطلحنا علي أن نستخدم مؤقتا عبارة ( أولاد الكلب ) كمقابل لأولاد الأسر. ثم طرحت علي فتحي السؤال الأوفر خطرا و الأكثر حساسية والذي كان قد شغلني حقا و أرهقني من أمري عسرا، و طلبت اليه أن يزودنى بإجابة تزيل عني الهم و القلق. و السؤال هو: ماذا عن موقع كلينا – فتحي و أنا – من هذا التصنيف؟ و هل نعتبر نحن من ( أولاد الأسر ) أم من ( أولاد الكلب)؟! و صارحته بأن واحدة من مصادر توجسى و عدم إطمئنانى هو أننى في صغرى سمعت والدى، رحمه الله، يناديني في مرات عديدة: ( يا إبن الكلب )! و بعد إنعام النظر و إجالة الفكر أفادني فتحي بأن القرار في هذا الصدد يتوقف علي المعايير المستخدمة فى تمييز الأولاد ( الأولانيين ) من الأولاد ( التانيين ) بحسب عادل إمام، و أن المرجعية في هذا تعود أولا و أخيرا للواء غندور، الذي كان قد قرر و أفاد بأن هناك نوعان من الأولاد، دون أن يحدد المعايير اللازمة للتمييز بين هذين النوعين. و لما لم أجد في إجابات فتحي ما يشفى الصدر و يطمئن الفؤاد عدت الي جهاز الهاتف لأحادث صديقنا الآخر البروفيسور بدر الدين حامد الهاشمي، أستاذ علم الأدوية والسموم في عدد من الجامعات الأمريكية و العربية، و المرابط عند ثغرة لنكولن من أعمال نبراسكا، فأفاد بأن التصنيف الذي إستنتجناه – فتحي و أنا – من عبارات اللواء لا يقوم علي أساس علمي سليم أو منهج متوازن، و ذلك لأن اللواء تحدث عن ( أولاد الأسر ) و لم يزد. و بالتالي فأن إفتراضنا بأن هناك نوعين من الأولاد، أولاد أسر و أولاد كلب، لا يقف من الوجهة المنهجية علي ساقين، فمن يدرى .. أذ ربما كان هناك في الواقع ثلاثة أنواع من الأولاد! و في ظل هذا الغموض الذي أحاط بهذه التصنيفات من حيث عددها و أنواعها و معاييرها أوصي البروفيسور بأن تقوم صحيفة ( الاحداث ) بفتح حوار صحفي جديد مع اللواء غندور يلقي مزيدا من الضوء علي هذه المسألة الشائكة الشديدة التعقيد، و يُطمئننا علي موقف ثلاثتنا – فتحي و بدر الدين و أنا – من حيث إنتمائنا ( كأولاد ) وفقا للتصنيف الأولادى الغندورى!
وتستحق توصية الهاشمي في نظري الإستجابة الفورية من ( الأحداث )، لا سيما و أن هناك أسئلة أخرى متضافرة أنتجتها الاجابات و الإفادات العديدة التي تفضل بها اللواء خلال حلقتي الحوار المطول الذي أجراه معه المحرر الصحفي الأستاذ حمزة بلول. و من ضمن الأشياء التي ربما كان من المناسب أن يستقصي عنها حمزة عند إجرائه الحوارالأضافي: هل كان اللواء غندور – الذي يؤمن بضرورة قصر الوظائف العمومية الهامة على ( أولاد الأسر المعينة) على أساس أن هؤلاء وحدهم دون غيرهم هم الذين ( يتصرفون بطريقة صحيحة في حياتهم و في سلوكهم الشخصي ) بحسب كلماته، يعيش في السودان خلال ربع القرن الماضي؟ و هل سمع بالحرب التى أشعلت نيرانها حركة تسمي نفسها الحركة الشعبية لتحرير السودان لأكثر من عقدين من الزمان بدعوى تحرير السودان من تسلط نخبة ( أولاد الأسر) النيلية علي الوطن الكبير؟ و هل سمع عن شئ إسمه ” السودان الجديد ” و عن شخص إسمه جون قرنق؟ و هل تناهي اليه أن واحدا من أهم المرشحين لرئاسة الجمهورية اسمه سلفا كير؟ و هل سمع عن حديث رئيس الجمهورية الفريق عمر البشير للمبعوث الامريكي أندرو ناتسيوس عن أنه في ضوء المعطيات و الوقائع التي يراها حوله ( يشعر أحيانا بأنه سيكون آخر رئيس عربي في السودان )! و هل سمع اللواء عن حركات أقليمية حملت السلاح في الغرب و الشرق تحت دعاوى مناهضة ( أولاد الأسر) و إنهاء هيمنتهم علي السلطة و الثروة، و هل سمع بأن عددا من قادة هذه الحركات يتقلدون اليوم أعلي المناصب الدستورية متوهطين فى قلب القصر الجمهورى، الذى طمح غندور نفسه الي الجلوس على أرائكه التقلب فوق طنافسه و لكن أقدار الله الغالبة لم تواف مراده؟!
نسب المحرر حمزة بلول ، فى عبارة وضعتها الصحيفة في مانشيت رئيسى، الي اللواء غندور قوله: ( القدر وحده قرر أن يكون جعفر نميرى فى قيادة ثورة مايو و ليس أنا ). و قد أكد اللواء ذلك المعنى بإيراده بعض الحيثيات الداعمة لروايته أنه كان مرشحا لقيادة المجموعة التى قادت حركة التغيير في مايو ١٩٦٩. و لا ريب أن أعضاء تلك المجموعة قد إقترفوا ذنبا عظيما لن يغفره لهم التاريخ، أذ لا يكاد يتصور المرء كيف أن أولئك الضباط تجاوزوا فى مقام إختيار قائد للسودان، و هم فى كامل قواهم العقلية، ( إبن أسر ) مثل غندور، و فضّلوا عليه إبن ….. مثل جعفر نميري! و لكن الذي يشغلني حقا فى هذا الجانب من حديث اللواء هو مصداقية الرواية التى ذكرها عن ترشيحه لرئاسة مجلس قيادة أنقلاب ١٩٦٩. و من الحق أن الرواية كانت قد وردت بصور عابرة – من غير تفصيل أو تثبيت لمصادرها الأولية – في بعض المؤلفات التى تعرضت لخلفيات الانقلاب، مثل كتاب ( الجيش و السياسة ) للعميد (م) عصام ميرغنى، الذى كتب في الفصل الثانى المعنون ( النظام المايوى: الانقلاب و الانقسام ) ما يفيد بأن غندور كان واحدا من ثلاثة مرشحين للقيادة. و لكن الذى يثير الدهشة هو أن الوثائق المتصلة بإنقلاب مايو، المسجلة كتابيا و صوتيا، باقلام و ألسنة المخططين و المنفذين الحقيقيين و المباشرين للانقلاب، لا تذكر شيئا عن اللواء غندور كمرشح أساسي لقيادة الانقلاب، و إنما حصرت التنافس بين شخصيتين هما جعفر نميرى و أحمد الشريف الحبيب، ثم أجمعت هذه المصادر على أن الرائد فاروق عثمان حمد الله، صاحب الدور المحورى في التدبير للانقلاب، هو الذي غلب كفة جعفر نميري. بل أن بعض المخططين و المنفذين الأساسيين، مثل المرحوم الرائد زين العابدين محمد احمد عبد القادر، سجلوا شهادات متوافقة يقررون فيها بأن إسم أحمد الشريف الحبيب، و إن كان قد ورد فعلا فإنه لم يكن في واقع الأمر مرشحا جديا لقيادة الانقلاب! و لكن أحدا من هؤلاء المخططين و المنفذين الذين وثقت شهاداتهم جهات عديدة، مهتمة بالرصد التاريخي و التوثيق، لم يورد إسم اللواء مزمل غندور كمرشح أساسي للقيادة! و المرة الوحيدة التى وردت فيها إفادات موثقة عن ترشيح اللواء غندور كمرشح جدى لقيادة عمل عسكرى يهدف الى الاستيلاء علي السلطة، كانت هي الشهادة المنسوبة لأحد قادة الجبهة الوطنية المدبرة لحركة الغزو المسلح الذى استهدف إزاحة حكم جعفر نميرى في يوليو ١٩٦٧، و هو قطب الحركة الاسلامية المعروف أحمد عبد الرحمن محمد، الذى صرح تصريحا مسجلا و منشورا بأن اللواء غندور كان هو المرشح الأساسي لقيادة الحركة المسلحة ألا أن إسمه أستبعد في المراحل النهائية لتخوف بعض قيادات الجبهة من ( طموحه الشخصى الزائد عن الحد ) بحسب كلمات أحمد عبد الرحمن محمد التي نشرتها صحيفة ( ظلال) عام ١٩٩٣. و تأسيسا علي هذه الحيثية تم إختيار المغفور له العميد محمد نور سعد بديلا عنه لقيادة الحركة. و ربما نهض بعض ثقاة المؤرخين المهتمين بتوثيق الوقائع التاريخية المتصلة بإنقلاب ١٩٦٩، ليأخذوا علي عاتقهم مهمة التحرى و الإستقصاء و تثبيت الوقائع عن رواية اللواء غندور و الكلمات التى نسبها – في حواره مع ( الاحداث ) – للمغفور له الرائد فاروق عثمان حمد الله علي أساس أنه فاه بها قبيل سويعات من إعدامه، و التى يستفاد منها أن غندور كان هو المرشح للقيادة، و لكن المجموعة فضلت عليه جعفر نميرى و اختارته رئيسا لتصورها بأن إزاحته عن السلطة، لو أقتضى الأمر، ستكون أسهل من إزاحة غندور المعروف بسطوته و شخصيته القويه بحسب تصريح غندور.
و ربما كان من المناسب أيضا – لمصلحة قضية الثقافة العامة و المعرفة – التي يفترض أنها هاجس الصحافة الأول – أن يصحح المحرر الصحفى الاستاذ حمزة بلول لقراء ( الأحداث ) بعض الأخطاء المربكة التي وردت في حلقتي الحوار منسوبة الي اللواء مزمل غندور، و من ذلك إشارته
الى الكتاب الشهير ( الرجل علي ظهر الحصان ) علي أنه من تأليف شخص أطلق عليه إسم ( البروفيسور كينة )، والصحيح إن الكتاب، وهو من المؤلفات المعروفة التي تداولها المتخصصون في العلوم السياسية بإهتمام و شغف في سبعينات القرن الماضي، هو من تأليف الكاتبين صمويل فاينر و جاي ستانلي. كذلك أشار اللواء غندور الي كتاب ( من خلال فوهة البندقية ) الذى يناقش إستيلاء العسكريين علي السلطة في مصر و السودان و نيجيريا، و نسبه الي مؤلفة إسمها ماري، و الصواب أن الكتاب من تأليف الكاتبة الجنوب-إفريقية روث فيرست، وقد قامت هذه المؤلفة بزيارة السودان في ستينات القرن الماضي، و كتبت بتوسع و تميّز عن دور الجيش في السياسة. و ذلك بالاضافة الي الخطأ، الذى سبق أن أشرنا له فى صدر المقال من نسبة مقولة ( السلطة مفسدة والسلطة المطلقة تفسد مطلقا) الي هارولد لاسكي مع أن صاحبها الحقيقي هو اللورد اكتون.
و لا نملك أيها القارئ الاكرم، أعزك الله، و قد وصلنا بهذا المقال الي نهايته، الا أن نبتهل – أنا و أنت – بخالص الدعاء الى المولي، تبارك إسمه و جلّ سلطانه، أن يسبغ علينا في الدنيا من فضله و كرمه و نعمائه، و أن يحشرنا يوم القيامة فى زمرة ( أولاد الأسر ) مع رهط مزمل الغر الميامين، و أن يجعل مقامنا فى الفردوس الأعلي، بمفازة من ( أولاد الكلب ) الذين لا يصلحون لشغل الوظائف العمومية في الدنيا، و لا للإقامة في جنان الخلد في الآخرة، إنه سميع قريب مجيب الدعاء، و إنه بالاستجابة جدير.
ثم يُلحق غندور عبارته السابقه بهذه العبارة التوضيحية الكاشفة: ( و أولاد الأسر المعينة التي تخشي العيب عادة يتصرفون بطريقة صحيحة في حياتهم و في سلوكهم الشخصي ). و الصياغة تدل دلالة كاملة على أن عبارة ( الأسر المعينة ) في هذه الجملة من حديث اللواء، توازي عبارة ( الاسر العريقة ) في الجملة التي وردت في مقدمة أجابته السابقة، وهي الأسر التي يُحبذ أن يتم الإختيار من بين صفوف ( أولادها ) للوظائف العمومية الهامة التى يُعرّفها غندور على أنها الوظائف ( التي تتصرف في شئون البشر بدون رقيب الا من الشخص نفسه والله سبحانه و تعالي. و هؤلاء لازم عند إختيارهم أن تكون مطمئنا لهم )، وهذه أيضا من درر اللواء نقلناها بنصها و فصها من بين سطور الحوار المنشور.
و قد جاشت في صدري و عقلي مشاعر مضطربة و أنا أقرأ كلام اللواء مزمل غندور و أتعرف علي خبايا هذه العقلية السودانية المتفردة، ثم أتأمل حصاد ما قرأت. و ما لبثت الأسئلة حول مضمون و معنى و دلالات الحديث تنقر علي رأسى حتي خلت أن عفريتا يكاد يركبني، ففزعت من وعثاء التفكير و التأمل الي جهاز الهاتف مستنجدا بصديقنا الكاتب الصحفي الاستاذ فتحي الضو المرابط عند ثغرة هويتون من أعمال شيكاغو، فسألته عن المقابل اللغوي لعبارة ( أولاد الأسر ) التي وردت في حديث اللواء، وبعد جدل و معاناة في البحث إصطلحنا علي أن نستخدم مؤقتا عبارة ( أولاد الكلب ) كمقابل لأولاد الأسر. ثم طرحت علي فتحي السؤال الأوفر خطرا و الأكثر حساسية والذي كان قد شغلني حقا و أرهقني من أمري عسرا، و طلبت اليه أن يزودنى بإجابة تزيل عني الهم و القلق. و السؤال هو: ماذا عن موقع كلينا – فتحي و أنا – من هذا التصنيف؟ و هل نعتبر نحن من ( أولاد الأسر ) أم من ( أولاد الكلب)؟! و صارحته بأن واحدة من مصادر توجسى و عدم إطمئنانى هو أننى في صغرى سمعت والدى، رحمه الله، يناديني في مرات عديدة: ( يا إبن الكلب )! و بعد إنعام النظر و إجالة الفكر أفادني فتحي بأن القرار في هذا الصدد يتوقف علي المعايير المستخدمة فى تمييز الأولاد ( الأولانيين ) من الأولاد ( التانيين ) بحسب عادل إمام، و أن المرجعية في هذا تعود أولا و أخيرا للواء غندور، الذي كان قد قرر و أفاد بأن هناك نوعان من الأولاد، دون أن يحدد المعايير اللازمة للتمييز بين هذين النوعين. و لما لم أجد في إجابات فتحي ما يشفى الصدر و يطمئن الفؤاد عدت الي جهاز الهاتف لأحادث صديقنا الآخر البروفيسور بدر الدين حامد الهاشمي، أستاذ علم الأدوية والسموم في عدد من الجامعات الأمريكية و العربية، و المرابط عند ثغرة لنكولن من أعمال نبراسكا، فأفاد بأن التصنيف الذي إستنتجناه – فتحي و أنا – من عبارات اللواء لا يقوم علي أساس علمي سليم أو منهج متوازن، و ذلك لأن اللواء تحدث عن ( أولاد الأسر ) و لم يزد. و بالتالي فأن إفتراضنا بأن هناك نوعين من الأولاد، أولاد أسر و أولاد كلب، لا يقف من الوجهة المنهجية علي ساقين، فمن يدرى .. أذ ربما كان هناك في الواقع ثلاثة أنواع من الأولاد! و في ظل هذا الغموض الذي أحاط بهذه التصنيفات من حيث عددها و أنواعها و معاييرها أوصي البروفيسور بأن تقوم صحيفة ( الاحداث ) بفتح حوار صحفي جديد مع اللواء غندور يلقي مزيدا من الضوء علي هذه المسألة الشائكة الشديدة التعقيد، و يُطمئننا علي موقف ثلاثتنا – فتحي و بدر الدين و أنا – من حيث إنتمائنا ( كأولاد ) وفقا للتصنيف الأولادى الغندورى!
وتستحق توصية الهاشمي في نظري الإستجابة الفورية من ( الأحداث )، لا سيما و أن هناك أسئلة أخرى متضافرة أنتجتها الاجابات و الإفادات العديدة التي تفضل بها اللواء خلال حلقتي الحوار المطول الذي أجراه معه المحرر الصحفي الأستاذ حمزة بلول. و من ضمن الأشياء التي ربما كان من المناسب أن يستقصي عنها حمزة عند إجرائه الحوارالأضافي: هل كان اللواء غندور – الذي يؤمن بضرورة قصر الوظائف العمومية الهامة على ( أولاد الأسر المعينة) على أساس أن هؤلاء وحدهم دون غيرهم هم الذين ( يتصرفون بطريقة صحيحة في حياتهم و في سلوكهم الشخصي ) بحسب كلماته، يعيش في السودان خلال ربع القرن الماضي؟ و هل سمع بالحرب التى أشعلت نيرانها حركة تسمي نفسها الحركة الشعبية لتحرير السودان لأكثر من عقدين من الزمان بدعوى تحرير السودان من تسلط نخبة ( أولاد الأسر) النيلية علي الوطن الكبير؟ و هل سمع عن شئ إسمه ” السودان الجديد ” و عن شخص إسمه جون قرنق؟ و هل تناهي اليه أن واحدا من أهم المرشحين لرئاسة الجمهورية اسمه سلفا كير؟ و هل سمع عن حديث رئيس الجمهورية الفريق عمر البشير للمبعوث الامريكي أندرو ناتسيوس عن أنه في ضوء المعطيات و الوقائع التي يراها حوله ( يشعر أحيانا بأنه سيكون آخر رئيس عربي في السودان )! و هل سمع اللواء عن حركات أقليمية حملت السلاح في الغرب و الشرق تحت دعاوى مناهضة ( أولاد الأسر) و إنهاء هيمنتهم علي السلطة و الثروة، و هل سمع بأن عددا من قادة هذه الحركات يتقلدون اليوم أعلي المناصب الدستورية متوهطين فى قلب القصر الجمهورى، الذى طمح غندور نفسه الي الجلوس على أرائكه التقلب فوق طنافسه و لكن أقدار الله الغالبة لم تواف مراده؟!
نسب المحرر حمزة بلول ، فى عبارة وضعتها الصحيفة في مانشيت رئيسى، الي اللواء غندور قوله: ( القدر وحده قرر أن يكون جعفر نميرى فى قيادة ثورة مايو و ليس أنا ). و قد أكد اللواء ذلك المعنى بإيراده بعض الحيثيات الداعمة لروايته أنه كان مرشحا لقيادة المجموعة التى قادت حركة التغيير في مايو ١٩٦٩. و لا ريب أن أعضاء تلك المجموعة قد إقترفوا ذنبا عظيما لن يغفره لهم التاريخ، أذ لا يكاد يتصور المرء كيف أن أولئك الضباط تجاوزوا فى مقام إختيار قائد للسودان، و هم فى كامل قواهم العقلية، ( إبن أسر ) مثل غندور، و فضّلوا عليه إبن ….. مثل جعفر نميري! و لكن الذي يشغلني حقا فى هذا الجانب من حديث اللواء هو مصداقية الرواية التى ذكرها عن ترشيحه لرئاسة مجلس قيادة أنقلاب ١٩٦٩. و من الحق أن الرواية كانت قد وردت بصور عابرة – من غير تفصيل أو تثبيت لمصادرها الأولية – في بعض المؤلفات التى تعرضت لخلفيات الانقلاب، مثل كتاب ( الجيش و السياسة ) للعميد (م) عصام ميرغنى، الذى كتب في الفصل الثانى المعنون ( النظام المايوى: الانقلاب و الانقسام ) ما يفيد بأن غندور كان واحدا من ثلاثة مرشحين للقيادة. و لكن الذى يثير الدهشة هو أن الوثائق المتصلة بإنقلاب مايو، المسجلة كتابيا و صوتيا، باقلام و ألسنة المخططين و المنفذين الحقيقيين و المباشرين للانقلاب، لا تذكر شيئا عن اللواء غندور كمرشح أساسي لقيادة الانقلاب، و إنما حصرت التنافس بين شخصيتين هما جعفر نميرى و أحمد الشريف الحبيب، ثم أجمعت هذه المصادر على أن الرائد فاروق عثمان حمد الله، صاحب الدور المحورى في التدبير للانقلاب، هو الذي غلب كفة جعفر نميري. بل أن بعض المخططين و المنفذين الأساسيين، مثل المرحوم الرائد زين العابدين محمد احمد عبد القادر، سجلوا شهادات متوافقة يقررون فيها بأن إسم أحمد الشريف الحبيب، و إن كان قد ورد فعلا فإنه لم يكن في واقع الأمر مرشحا جديا لقيادة الانقلاب! و لكن أحدا من هؤلاء المخططين و المنفذين الذين وثقت شهاداتهم جهات عديدة، مهتمة بالرصد التاريخي و التوثيق، لم يورد إسم اللواء مزمل غندور كمرشح أساسي للقيادة! و المرة الوحيدة التى وردت فيها إفادات موثقة عن ترشيح اللواء غندور كمرشح جدى لقيادة عمل عسكرى يهدف الى الاستيلاء علي السلطة، كانت هي الشهادة المنسوبة لأحد قادة الجبهة الوطنية المدبرة لحركة الغزو المسلح الذى استهدف إزاحة حكم جعفر نميرى في يوليو ١٩٦٧، و هو قطب الحركة الاسلامية المعروف أحمد عبد الرحمن محمد، الذى صرح تصريحا مسجلا و منشورا بأن اللواء غندور كان هو المرشح الأساسي لقيادة الحركة المسلحة ألا أن إسمه أستبعد في المراحل النهائية لتخوف بعض قيادات الجبهة من ( طموحه الشخصى الزائد عن الحد ) بحسب كلمات أحمد عبد الرحمن محمد التي نشرتها صحيفة ( ظلال) عام ١٩٩٣. و تأسيسا علي هذه الحيثية تم إختيار المغفور له العميد محمد نور سعد بديلا عنه لقيادة الحركة. و ربما نهض بعض ثقاة المؤرخين المهتمين بتوثيق الوقائع التاريخية المتصلة بإنقلاب ١٩٦٩، ليأخذوا علي عاتقهم مهمة التحرى و الإستقصاء و تثبيت الوقائع عن رواية اللواء غندور و الكلمات التى نسبها – في حواره مع ( الاحداث ) – للمغفور له الرائد فاروق عثمان حمد الله علي أساس أنه فاه بها قبيل سويعات من إعدامه، و التى يستفاد منها أن غندور كان هو المرشح للقيادة، و لكن المجموعة فضلت عليه جعفر نميرى و اختارته رئيسا لتصورها بأن إزاحته عن السلطة، لو أقتضى الأمر، ستكون أسهل من إزاحة غندور المعروف بسطوته و شخصيته القويه بحسب تصريح غندور.
و ربما كان من المناسب أيضا – لمصلحة قضية الثقافة العامة و المعرفة – التي يفترض أنها هاجس الصحافة الأول – أن يصحح المحرر الصحفى الاستاذ حمزة بلول لقراء ( الأحداث ) بعض الأخطاء المربكة التي وردت في حلقتي الحوار منسوبة الي اللواء مزمل غندور، و من ذلك إشارته
الى الكتاب الشهير ( الرجل علي ظهر الحصان ) علي أنه من تأليف شخص أطلق عليه إسم ( البروفيسور كينة )، والصحيح إن الكتاب، وهو من المؤلفات المعروفة التي تداولها المتخصصون في العلوم السياسية بإهتمام و شغف في سبعينات القرن الماضي، هو من تأليف الكاتبين صمويل فاينر و جاي ستانلي. كذلك أشار اللواء غندور الي كتاب ( من خلال فوهة البندقية ) الذى يناقش إستيلاء العسكريين علي السلطة في مصر و السودان و نيجيريا، و نسبه الي مؤلفة إسمها ماري، و الصواب أن الكتاب من تأليف الكاتبة الجنوب-إفريقية روث فيرست، وقد قامت هذه المؤلفة بزيارة السودان في ستينات القرن الماضي، و كتبت بتوسع و تميّز عن دور الجيش في السياسة. و ذلك بالاضافة الي الخطأ، الذى سبق أن أشرنا له فى صدر المقال من نسبة مقولة ( السلطة مفسدة والسلطة المطلقة تفسد مطلقا) الي هارولد لاسكي مع أن صاحبها الحقيقي هو اللورد اكتون.
و لا نملك أيها القارئ الاكرم، أعزك الله، و قد وصلنا بهذا المقال الي نهايته، الا أن نبتهل – أنا و أنت – بخالص الدعاء الى المولي، تبارك إسمه و جلّ سلطانه، أن يسبغ علينا في الدنيا من فضله و كرمه و نعمائه، و أن يحشرنا يوم القيامة فى زمرة ( أولاد الأسر ) مع رهط مزمل الغر الميامين، و أن يجعل مقامنا فى الفردوس الأعلي، بمفازة من ( أولاد الكلب ) الذين لا يصلحون لشغل الوظائف العمومية في الدنيا، و لا للإقامة في جنان الخلد في الآخرة، إنه سميع قريب مجيب الدعاء، و إنه بالاستجابة جدير.