رأي

عُقدة التاريخ وصراع النفوذ: حين تتحد الإمارات وإسرائيل وفرنسا لإسقاط إرادة الخرطوم

عبدالعزيز يعقوب

(١)
في غبار الحروب لا تُرى اليد التي أشعلت النار أولاً، بل تُرى النتائج حريق، دم، خراب ضحايا وأموات وتشريد. لكن في السودان بات المشهد أكثر وضوحًا. لم تعد الحرب الدائرة مجرد نزاع داخلي، بل تتكشف كل يوم أبعادها الخارجية وتحالفاتها الخبيثة والدوافع النفسية والسياسية التي جعلت من السودان، البلد العربي الأفريقي، هدفًا للتفكيك والتجويع؛ لا لشيء سوى لأنه قال “لا” حين صمت الآخرون.

حين تنهض الشعوب وتسقط أقنعة الخونة، تتكشف ملامح العدو الحقيقي بلا مساحيق ولا وسطاء. وفي السودان لم تكن الحرب مجرد صراع داخلي على السلطة، بل كانت ستارًا يخفي مشروعًا إقليميًا أبعد مدى، تنفّس فيه الاستعمار الفرنسي مكره القديم–الجديد، وتديره الإمارات بأموال شعبها المغلوب على أمره، وتغذّيه إسرائيل بأحلام “دولة كبرى” .دولة يريدها هذا التحالف تمتد من القرن الإفريقي إلى السهول الأفريقية وحتى الأطلسي، في سباق محموم للهيمنة على مفاصل المنطقة وثرواتها ومياهها الإقليمية، وتطويق مصر من خاصرتها الجنوبية.
(٢)
لكن خلف هذا المشهد السياسي تكمن دوافع نفسية دفينة تحرك حكام الإمارات. الذين نشأ حكمهم وسط رمال النفط المتحركة يطاردهم شعورٌ بالدونية أمام حضارة السودان العريقة وتاريخه الضارب في عمق الزمان. فالسودان ليس بلدًا كبيرًا بحجمه الجغرافي فحسب، بل يتميز بهيبته الحضارية وشعب أطاح طغاته بثورات شعبية وإرادة حرة دون وصاية. هذا النموذج الثوري يشكل تهديدًا سيكولوجيًا لمن بنوا شرعيتهم على الصمت المفروض والقهر الخفي، ولمن عوضوا افتقادهم للشرعية الشعبية ببناء هيمنة قسرية إرثها الدم والخيانة.

إن عقدة النقص المركبة تجاه التاريخ، وعقدة التفوق القسري تجاه شعوب فقيرة لكنها حرة، دفعت حكام الإمارات إلى معاداة السودان لا لأنه مصدر تهديد مادي فحسب، بل لأنه يعكس ما يفتقرون إليه التسامح، الكرامة الوطنية، الإرادة الشعبية، والعقول مورداً للمستقبل. ومن هنا كان التآمر عليه ضرورة نفسية قبل أن يكون مصلحة سياسية.

ومع التحالف الوثيق بين أبوظبي وتل أبيب، تضاعفت الرغبة في محو السودان من معادلة التوازن العربي–الإفريقي. فمن بورتسودان إلى باب المندب رسم التحالف حزام نفوذ مشترك يهدف إلى خنق القرار المصري وعزل القاهرة عن عمقها الإفريقي وكسر ما تبقى من الإرادة الحرة في المشرق والقرن الإفريقي.
(٣)
ولا يكتمل مشهد الصراع دون الإشارة إلى الدور الفرنسي في تفريغ غرب إفريقيا من القبائل العربية وأطماعها في بعض مناطق غرب السودان. فقد تبنت باريس سياسات قديمة وحديثة لتقليص نفوذ العرب في السهل الأفريقي عبر دعم حركات انفصالية وتغيير ديموغرافي، كما سخرت أجهزتها الاستخباراتية لاستثمار موارد دارفور ومناطق حدود تشاد والنيجر في حزام أمني واقتصادي يبعد النفوذ العربي إلى محرقة السودان وإخلاء المستعمرات الفرنسية من الوجود العربي المسلم. .

إضعاف السودان لم يقتصر على تفتيت دولة كانت ترزح تحت وطأة التحديات، بل كان مقدمة لابتزاز مصر ودعم مأساة غزة واستدراج دول الجوار. سقوط عمق مصر الاستراتيجي يجعل القاهرة مكشوفة لأي ضغط إقليمي، ويعزل دول عمق إفريقيا عن دورها التقليدي، ويفتح الباب أمام مشاريع نفوذ أجنبية من الإمارات وإسرائيل وفرنسا، كما يقوض التضامن العربي ويمهد لتمرير اتفاقات التطبيع بعزلة أكبر للقضايا العربية الكبرى.

هكذا، حين يُكسر ظهر السودان، ينكشف ظهر مصر وعورة العرب والأفارقة. وحين تُذبح الإرادة والصمود في الخرطوم، ترتجف السيادة في القاهرة والعروش العربية، وتنهب موارد الدول الأفريقية . إنهم لا يحاربون السودان فقط، بل يحاربون التاريخ وذاكرة الشعوب والمستقبل، وكل ما يُشعرهم بنقصهم المزمن وسط شعوب تعلمت كيف تنهض لا كيف تطيع وترضى بغير عزتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى