عن جيمي كليف والريقي وإيقاعات الغناء السوداني

د. خالد محمد فرح

رحل عن دنيانا الفانية قبل أيام قلائل، المغني الجامايكي الشهير جيمي كليف ١٩٤٤- ٢٠٢٥م ،عن عمر زاد قليلاً عن الثمانين عاما. وجيمي كليف هو واحد من ألمع مغني البوب ميوزك العالميين، الذين ظهروا في سبعينيات القرن العشرين ، وربما لم يفقه شهرةً إلا صنوه ومواطنه بوب مارلي، الذي كان نجماً ساطعاً في عالم الغناء العالمي الحديث، بل مثل أيقونة خالدة من أيقوناته، بسبب حسن اختياره للنصوص، وخصوصاً بسبب أدائه الجذاب والمؤثر، وشخصيته الكاريزمية، بشعره المجدول، وارتباطه بهالة شبه سحرية، قوامها اعتقاده وتبنيه على نحو ما، لفلسفة وايديولوجيا حركة الجامعة الافريقية Pan-Africanism وحركة الزنوجة Negritude المستوحاة بصفة خاصة، من مُثل وتطلعات الحضارة والنهضة الأفريقية، لتي تجسدت في نشاط الأمير الإثيوبي، راس تفرّي في ثلاثينيات القرن الماضي وتحركاته الرائدة على الساحة الدولية، وهو
ذاته الذي سوف يصبح الإمبراطور هيلاسلاسي الأول فيما بعد. وهذا الموضوع، هو مما قد توسع فيه باقتدار، الناقد والاديب الكبير، الراحل السفير عبد الهادي الصديق في كتابه بعنوان: السودان والافريقانية.
أذكر أنه عندما كنا طلاباً بجامعة الخرطوم في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي، بلغنا أن بعض الشباب العاصمي، وخصوصاً بأحياء الديوم، والسجانة، وامتداد الدرجة الثالثة، قد نصبوا سرادقات للعزاء بعد وفاة بوب مارلي في عام 1982م. قالوا: كان الشباب المعجبون ببوب مارلي، الذين شقّ عليهم نعيهُ، وأحزنهم رحيله، يأتون من مختلف أطراف العاصمة المثلثة، على متون الحافلات. فيقصدون تلك السرادقات. فيقدم لهم الشاي او القهوة، ويستمعون إلى باقات من أغنيات بوب مارلي المسجلة على أشرطة كاسيت حينئذٍ، ومن أشهرها أغنيته التي مجد فيها نجاح نضال زيمبابوي، الذي نالت بفضله استقلالها من بريطانيا في عام 1980م.
اشتهر جيمي كليف وصنوه بوب مارلي كلاهما إذاً، بالغناء على إيقاع الريقي، وهو على ما يقال، إيقاع كاريبي ذي جذور أفريقية، ولذلك فقد راق جدا لجميع الأفارقة، وتذوقوه وتغنوا عليه، بمن في ذلك طائفة من
المطربين السودانين.
ومما يذكر بهذه المناسبة، أنّ المطرب جيمي كليف، قد زار الخرطوم في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. وقد رُوي انه قد شهد حلقة ذكر ذات أصيل، بساحة ضريح الشيخ حمد النيل بأم درمان، ويقال إنه قد أعجب للغاية بإيقاع طبل الذكر ” النوبة “، فأدخله لاحقاً في بعض أغنياته، والله أعلم أي ذلك كان.
هذا. ومما لا شكّ فيه، والشيء بالشيء يُذكر، أن المغنين السودانيين في مختلف حقبهم وطبقاتهم، وكذلك المستمعين السودانيين عموماً، يتمتعون بأذن موسيقية رحبة جداً، ومتسامحة للغاية، مع مختلف الايقاعات الموسيقية الأجنبية الوافدة عليهم من الخارج، مما لا عهد للتركيبة الايقاعية المتنوعة والثرية جدا في السودان سلفاً، بها.
فإلى جانب الايقاعات الوطنية اذا جاز التعبير، مثل: التُم تُم، والسيرة، والجراري، والدليب، والكلش، والمردوم، والكمبلا والكرنق وغيرها، فقد استطاع الغناء السوداني عبر مسيرته الطويلة، أن يستوعب ويتبنى ايقاعات عديدة من مناطق وأقطار شتى. مثل ايقاعي واحدة ونص وعشرة بلدي المصريين، والسامبا والرومبا اللاتينيين، اللذين عليهما معظم أغنيات أواخر
الخمسينات إلى منتصف الستينيات، بالإضافة إلى إيقاع الفالس الأوروبي الخالص، الذي ظهر في بعض الأغنيات الراقية والرصينة في عقدي الخمسين والستين من القرن الماضي، مثل أغنية ” في سكون الليل دعنا نجتلي الصمت الرهيب ” من الحان وأداء الفنان العميد أحمد المصطفى، وكذلك أغنية ” حبيب العمر بالدنيا ” من كلمات الشاعر مصطفى سند وألحان وأداء،صلاح مصطفى ، ومن الملاحظ أن كلا هاتين الأغنيتين باللغة العربية الفصحى، ثم جاء، إيقاع الجيرك الغربي، الذي سيطر على ألحان أغنيات أواخر الستينيات إلى منتصف السبعينيات، وأمثلة على ذلك اغنية ” توعدنا وتبخل بالصورة ” من كلمات اسحاق الحلنقي وألحان وأداء محمد وردي، و أغنية ” قلبك حجر ” من كلمات عثمان خالد ، وألحان عبد اللطيف خضر، وأداء ابراهيم عوض ، وكذلك جل أغنيات البلابل من تلحين بشير عباس، مثل ” لون المنقة ” ، و ” مشينا ” لأسحاق الحلنقي، و ” نوّر بيتنا ” من كلمات صلاح حاج سعيد ، وكذلك أغنية ” الباقي باقي ” من كلمات الصادق الياس، ولحن وأداء صلاح بن البادية،جميعها جاءت على إيقاع الجيرك.
أما إيقاع الريقي الذي نتطرّق إليه في هذه الكلمة، بقرينة ارتباطه بالمغني الراحل جيمي كليف، فإن
المغنين والملحنين السودانيين، لم يغفلوا عنه كذلك. فلعل من أشهر الأغنيات التي جاء لحنها على إيقاع الريقي، أغنية: ” أكون فرحان يوم تكون جنبي ” من كلمات الشاعر الكبير عوض أحمد خليفة، وتلحين الموسيقار المخضرم الاستاذ ” أحمد زاهر “، وأداء المطرب الراحل زيدان إبراهيم، وهنالك أغنية أخرى أيضاً، جاءت على إيقاع الريقي، للمطرب الراحل ” إبراهيم حسين ” ، وهي من كلمات الشاعر والمغني اليمني الحضرمي ” أبو بكر سالم بلفقيه “؛ يقول مطلعها:
يا حبيبي لا عليكَ
ها أنا عدتُ إليكَ
كلما قد كان مني
بيدي لا بيديكَ
ولعلها من أواخر أغنيات إبراهيم حسين رحمه الله. وصادق التعازي في الختام، لأسرة الفنان جيمي كليف، ولعُشّاق فنه في السودان والعالم، والبقاء لله وحده.

Exit mobile version