عمر صديق للخارجية.. السيف إلى قرابه

سيف الدين البشير
بقامةٍ فارعة وخطوٍ متعقلٍ ، وبسمرةٍ تراوح ما بين الأبنوس والبرونز ، تقدم الرجل نحوي مقدماً نفسه ؛ “السفير عمر صديق” . كنت قد ترجلت لتوي من الطائرة بمطار جوهانسبيرغ عقب تعييني ملحقاً اعلامياً بسفارة السودان بجنوب أفريقيا.
وما كنت أتصور وأنا الموظف في الدرجة الخامسة أن يستقبلني رئيس البعثة ، بل كان يكفي أن ينتظرني موظف العلاقات العامة أو حتى سائق من السفارة ، لكن الدهشة لم تقف بعد ، فقد اكتشفت أن المسافة بين جوهانسبيرغ والعاصمة بريتوريا تستغرق بين الـ45 دقيقة والساعة! .
كانت هي الوهلة الأولى التي ألتقي فيها السفير عمر محمد صديق ، وأسفت أن لم أكن عرفته قبلها “ببيد دونها بيد” .
اكتشفت منذ بواكير وجودي أن منزل السفير هو مجمع الدبلوماسيين والسودانيين من مختلف المشارب بكل ألوان طيفهم، وهو مجمع قوامه الإيجاب من كل الواجهات تماماً كالمنشور الزجاجي . أصبح البرنامج الأفضل عقب المغرب هو منزل السفير حتى وإن كان غائباً لأي منشطٍ يرتبط بمهامه .. وبعض هؤلاء قد يؤم المجمع والبعد بين مسكنه ومنزل السفير قد يتجاوز الساعة .. هل أحدثكم عن قدرته المعجزة في جمع الأضداد داخل غرفةٍ صالون قد لا تتجاوز مساحته العشرين مترا ؟ .. وكسائر مهاجر السودانيين تعج بريتوريا بالمختلفين على قواطع فكرية أيديولوجية ، أو حزبية أوخلافها من شاكلة “الزول دا ما بدورو كدا ساااكت” ، وما رأيت متسعاً يجمع هؤلاء سوى منزل السفير طوعاً لا كرهاً مبلغ أن تحل مشهدية الود كسيدةٍ للمجالس ..
ثم رويداً تتحدث معه في العلاقات الدولية ؟ .. في ماضي وحاضر العلوم السياسية ؟ .. حول تنوع ثقافات أهل السودان ؟ .. تقارن بين أبي الطيب وأبي تمام والبحتري ؟ .. بين هينري كيسنجر وهنتنغتون ؟ .. بين أبو الأمين و وردي ؟ .. تناقش صدقية صراع الحضارات ؟ .. أيلولة التوترات هنا وهناك؟ .. أشهد الله ما وجدت حضوراً متعقلاً ، وتحليلاً حصيفاً ثاقباً كمثل ما عند الرجل ، رغم حواراتي الصحفية المتعددة مع الكبار أمثال الصادق المهدي ، والترابي ، وسيد أحمد الحسين ، وعبد الرسول النور ، وبروفيسور عبد الله الطيب ، ود. رياك مشار ، وأسياس أفورقي ، ود. جان بينغ رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي.
ثم رويداً .. ورغم هموم المهام ، والمسؤوليات الأسرية، وواجب الضيافة اليومي ، يحتفظ عمر صديق بهاتفه الصغير بما يتجاوز 150 كتاباُ .
وهناك في السفارة يظل المكتب مفتوحاً أمام الجميع ، يخرج منه من هو يساري الهوى ليعقبه مفارق له بزاويةٍ مقدارها 180 درجة، ومكتب السفير يسع الجميع ، وكانت وصيته الدائمة للدبلوماسيين أن السفارة هي بيت كل السودانيين .. وللرجل وطنية يصدقها أن بإمكانه أن يبحر في التوصيف الدقيق لكل شبر من البلاد ، تراثه وثقافاته وبيئته وأعلامه “عمد ومشايخ” .. وطنية مطبوعة وليست محض هتافٍ “من الحلقوم لي الجضوم” .
وثم هدوءٍ فوق طاقة غالب المسؤولين ، بحيث لا مكان للانفعال مهما شاجر اللحظة من شطط .. هدوءٌ لا أتصور أن خلفيته هي المراس الدبلوماسي وحسب ؛ بل أن تلك السمة هي بنت التنشئة وما صقلها من تراكم علمي وتجربة دبلوماسية..
الآن حان لعلاقاتنا الدولية أن تعالج عبر الحصيف من الخطط ، والرؤية الثاقبة ، وكم كنت أستغرب بُعد السفير عمر عن الأضواء ، وزهده اللامتناهي في المناصب .. الآن نثرت القيادة كنانتها وتخيرت الأفضل – في نظري – ليروي أنبل القصص وأصدقها عن بلادنا للعالم.
نقلا عن موقع “المحقق”