عمرو منير دهب يكتب: محاكاة الموضة

nasdahab@gmail.com

أقول في “طريق الحكمة السريع”: “أول من طرح الفكرة التي أضحت تقليدية هو مبدع بامتياز، أول من قلّده هو مبدع لفكرة التقليد. البقية عليهم أن يُسألوا”. ينطبق الأمر بطبيعة الحال على الموضة، فالفكرة المجردة للموضة في أي مجال صورةٌ من صور الإبداع مهما يصرّ البعض على تجاهل ذلك، وبتجاوز المعنى الدقيق المقصود هنا بالإبداع الكامن في السبق إلى التقليد كما في القول المقتطف في البداية، فإن الفكرة الأصيلة تظل إبداعاً حتى إذا لم ينشط الناس إلى تقليدها، وربما يبرز هنا الفارق مع الموضة في هذا المقام، فلن تغدو الموضة جديرة بهذا الاسم إلا بعد أن يتهافت الناس إلى اتّباعها، وذلك بصرف النظر عن أصالة الفكرة موضوع الترويج.

وعلى غير الحال بالضرورة مع الإبداع بصفة عامة كما أشرنا، فإن روعة الموضة تتضاعف بتضاعف المعجبين والمتابعين للفكرة التي تروّج لها. وعندما تعدم فكرةٌ أصيلة لموضة جديدة تماماً ما يكفي من أعداد المعجبين والمتابعين الذين يجب أن يتهافتوا عليها فإنها تنتقل تلقائياً من خانة الموضة لتستقر بشكل أكثر ارتياحاً في خانة الأفكار المبتدعة، ذلك أن من شروط صحة الموضة أن تلاقي رواجاً ملحوظاً (إن لم يكن منقطع النظير)، حتى إنه يصعب أن نجيز في هذا المقام مصطلحات من قبيل “موضة ضعيفة” أو “موضة غير رائجة”. في المقابل، يصح أن نقول “موضة محدودة النطاق”، على أساس أن الموضة شملت مكاناً – أو زماناً – بعينه، مع التسليم بأن اجتياحها (كالحمّى) لذلك المكان/الزمان كان كاسحاً بما يكفي لصنع ضجيج صاخب لا تصحّ موضة من دونه على أي نطاق.

انعدام المحاكاة لا يبطل إذن فكرة مبتدعة أصيلة، لكنه لا ريب يبطل الموضة بوصفها ظاهرة، بل إن خفوت المحاكاة (كمّاً أو كيفاً) يؤثر على الموضة إلى حدّ التهديد بإبطالها إذا كان خفوتاً ملحوظاً.

يتوارى الناس أحياناً عند محاكاة فكرة أصيلة في الآداب أو العلوم أو أيٍّ من نواحي الحياة، لكن ما يرقى إلى مرتبة الموضة من الظواهر (في أيٍّ من نواحي الحياة مجدداً) لن يكون سبباً إلى إحراج من يحاكونه، بل إن محاكاة الموضة لا بد من أن تصاحبها لذة يصحّ وصفها بلذة الحصول على “شرف” المحاكاة. وبرغم أن الموضة – أية موضة – متاحة للجميع ابتداءً، فإن كثيراً من (أغلب؟) الناس يتوجّسون من أن الموضة الجديدة لن تكون “على مقاسهم”، وهذا هو على الأرجح مبعث اللذة التي يستشعرها الناس وهم يرفلون في ثياب موضة – من أي قبيل – وقد تأكدوا من أنها جاءت “على مقاسهم” ولم تثر حفيظة/استهجان/استغراب أيٍّ ممن يراقبونهم من أية مسافة.

وقد رأينا تحت عنوان “المرأة والموضة” أنه: “مع المرأة نغدو أمام واحدة من أظهر حالات مواجهة فكرة الموضة جرأة، إن لم تكن أجرأ تلك الحالات على الاطلاق، فحواء وحدها مَن ظلّ يعدو نحو الموضة بإصرار وثقة غير عابئة بوابل الغمز واللمز المتواصل من المجتمع عموماً، ومن الرجل تحديداً (وحصراً؟) بطبيعة الحال. فإذا صحّ زعمنا بأن الموضة من جواهر أفكار الحياة المتمكنة من نفوسنا وليست مجرد قشرة من أظهر قشورها كما يروِّج منتقدوها، فإن المرأة لا تُعَدّ سبّاقة فحسب إلى التقاط تلك الجوهرة وإنما رائدة في الصبر على مكاره إشانة السمعة جرّاء العدو خلف سفاسف الأمور كما ظل يتلذذ مكايدوها (الرجال وحدهم؟) بالترويج بشأن صنيعها إزاء الموضة”.

في سيرة “المرأة والموضة” إذن تتعدّى حوّاء جرأة مواجهة أي امتعاض لمسألة المحاكاة، التي لن تغدو الموضة مكتملة (بل متحققة كما أشرنا) بدونها، إلى حيث تقف بجرأة نادرة أمام مسألة محاكاة ما يراه المجتمع (الرجال) قشوراً حتى مع أكثر أشكال الموضة سطحية. فإذا لم نختلف طويلاً على أن المرأة أسرع مللاً من الرجل بصفة عامة، بات بالإمكان القول بأنه لا نصير لفكرة الموضة في أيٍّ من أشكالها أروع من المرأة، وذلك ابتداءً من فكرة إطلاق أية موضة مهما تكن سطحية، وصولاً إلى بيت قصيدنا في هذا السياق: المحاكاة (المجردة من أية ادّعاءات موضوعية مقحمة) بوصفها شرطاً جوهرياً لتحقّق/اكتمال/ازدهار الموضة على أي صعيد.

وإذا بدا والحال كتلك أنه لا ينبغي أن يجرؤ أحد على التفكير في إطلاق صرعة جديدة دون أن يكون واثقاً من وجود جحافل من الأتباع المحتملين، فإن بعضاً (كثيراً؟) من أروع ما تفتّق عنه مفهوم الموضة من التجليات عبر العصور سنحت دواعيه دون سبق إصرار من أصحابه على فكرة ابتداع موضة أو ترصّد لأتباع محتملين.

Exit mobile version