عمرو منير دهب يكتب: فرنسا والموضة

nasdahab@gmail.com

تحت عنوان “موضة الموضة” أشرنا إلى أنه “مهما يكن من أمر بداياتها، فإن ما انتهت إليه الأزياء بات الأكثر دلالة على فكرة الموضة، فالكلمة الأخيرة تكاد تنحصر في أذهان الناس داخل إطار عروض الأزياء ولا تبارحها إلّا إلى إطار الطلّة الأكثر شمولاً بما يستوعب شكل المرء نفسه، والتغييرات في أشكالنا كانت بالأمس مقتصرة تقريباً على قصّات الشعر حتى دخلت موضة عمليات التجميل فشملت نفخ الشفاه ونحت الأنف وقص المعدة”.

وإذا كان لا بد من تخصيص بلد أكثر من سواه لاستئثاره بالموضة كفكرة وتداعياتٍ في وجدان العالم فإن فرنسا تقف باستمرار بوصفها مرشحاً قوياً لاعتلاء مقدمة التصنيف المفترض هذا، ومجدداً تبرز الأزياء وملحقاتها (الأحذية، الحقائب، الإكسسوارات على اختلافها) بوصفها المرشح الأكبر لاختصار المراد بالموضة في هذا السياق، رغم أن المعاجم والموسوعات قد باتت أكثر ميلاً لأن تستوعب داخل مصطلح الموضة Fashion كل ما هو قابل للتغيير بمؤثرات سريعة ومتباينة لا أزال مصرّاً على أن أبرزها (المؤثرات) هو الملل من الثبات مجرداً.

تميل ويكيبيديا في نسختيها العربية والإنجليزية إلى تلك الرحابة في تعريف الموضة، والحق أن ويكيبيديا العربية أكثر انفتاحاً هذه المرة بما يعيننا على إثبات ما نريده من الموضة في هذا المقام، على الرغم من أن النسخة الإنجليزية من الموسوعة الحرة أكثر دقة وتحديداً وتفصيلاً. وربما يكون الاختلاف هذه المرة في طبيعة محتوى النسختين من ويكيبيديا ابتداءً بسبب ترجمة كلمة Fashion إلى موضة، مع ملاحظة أن الأصل الإنجليزي يشير إلى موضة الأزياء وملحقاتها أكثر من أي شيء آخر، في حين أن الكلمة المعربة “موضة” أكثر مرونة في استيعاب الإشارة إلى المنتجات المادية والمعنوية العرضة لـ “ثقافة” التغيير السريع.

لكن قاموس ميريام ويبستر يبدو أكثر انفتاحاً من نسخة ويكيبيديا الإنجليزية في تعريف الموضة Fashion ، فأول تعريف للكلمة الإنجليزية في المعجم الشهير يمكن ترجمته كما يلي: “النمط السائد (كما في اللباس) خلال فترة زمنية معينة”، و”كما في اللباس” (as in dress) التي يوردها المعجم بين قوسين في التعريف تشير إلى دلالتين هامتين بشكل متوازٍ: الأولى أن الأزياء هي الأشهر في اقتناص فكرة وتعريف الموضة، والثانية أن الموضة باتت تشمل أي نمط سائد بتجاوز ما بين القوسين مما يرد على سبيل المثال.

بالعودة إلى فرنسا تحديداً، فإن سيرتها مع موضة الأزياء وملحقاتها تبرهن على سطوتها (إذا كانت تحتاج إلى البرهنة) العلاماتُ التجارية التي باتت بصورة موازية علامات على الرقي ورفعة المقام الاجتماعي: شانيل، لويس فويتون، جيفنشي، بيير كاردان، إيف سان لوران، ديور، جان بول غوتييه، هيرميس، لانفين، كلوي، روشاس، سيلين. والأمثلة هذه نقلاً عن مقالة “الموضة الفرنسية” French Fashion في ويكيبيديا الإنجليزية التي تُعدِّد بيوتَ الموضة العريقة تلك في باريس الملقبة بـ “عاصمة الموضة العالمية” كما تؤكد النسخة الإنجليزية من الموسوعة العالمية.

ولكن شهرة فرنسا مع الموضة ليست متعلقة بالأزياء وملحقاتها فحسب، فتحت عنوان “صرعة النظريات النقدية” أوردنا ما يلي: “في ردّه على مداخلة جهاد فاضل: يتحدثون في فرنسا الآن (قبل ثلاثة عقود) عما بعد البنيوية… (وذلك ضمن كتاب “أسئلة النقد”)، يقول جبرا إبراهيم جبرا: ما بعد البنيوية، كل شيء أصبح الآن ما بعد… كلها كانت في الواقع طفرات وأصبح التنظير النقدي أشبه لسوء الحظ بالصرعات. وكما قلت إن هذه الصرعات تنتمي إلى أصحابها الأفراد، وليس إلى مدارس تُعمَّم لأنها تكشف عن خوافٍ فكرية أو نفسية أو أدبية أو ذهنية تجعل للإنسان فهماً أكبر لما يبدعه كل يوم”.

وها هي شهادة ألبرتو مانغويل في كتابه “مع بورخيس” عن الكاتب الأرجنتيني الشهير خورخي لويس بورخيس تؤكد الشيء نفسه: فرنسا كونها مَصدراً للموضة الأدبية، بصرف النظر عن السياق السلبي عند الحديث عن الموضة مع الأدب، سواء في ما سبقت الإشارة إليه من حديث جبرا إبراهيم جبرا، أو ها هنا في سياق شهادة مانغويل عن بورخيس: “كان نافد الصبر تجاه النظريات الأدبية التي تجاري الموضة، وكان يلقي باللوم تحديداً على الأدب الفرنسي لتركيزه ليس على الكتب بل المذاهب والشلل”.

لا يبدو سهلاً الوقوفُ على ما يمكن أن يؤكد ولع الفرنسيين عبر تاريخهم بالتغيير والتجديد إلى درجة ما يمكن وصفه بالعادة التي تطال كل ما هو مادي ومعنوي من أوجه الحياة على نحو ما يمكن الوقوع عليه في سلوك الأمريكيين على الصعيد ذاته سواءٌ حديثاً أو حتى بالرجوع إلى سيرتهم الأولى مع الهجرات التي شكّلت الولايات المتحدة الأميركية. برغم ذلك، وانطلاقاً من تشعبات قراءة المثالين المأخوذين: الأزياء بملحقاتها والمذاهب الأدبية، يمكن القول بأن فرنسا تدرك تماماً أن الموضة فكرة أعمق من أن تظل حكراً على علاماتها التجارية المرموقة وحسب.

Exit mobile version