عمرو منير دهب يكتب: تاريخ صلاحية الأحياء الراقية

nasdahab@gmail.com

تتبدّل الأحياء الراقية في المدن من حيث دلالاتها المعنوية، بل ربما قبل ذلك مادياً على الواقع، بدوافع عديدة ومتداخلة سيكون من العسير ربما إثبات أن واحداً من أبرزها هو الموضة بوصفها حدثاً لا محرِّضَ عليه أظهر من رغبة محضة في الفرار من الملل كما أحب أن أؤكد باستمرار.

وإذا كان إثبات الزعم أعلاه – حول تأثير الموضة في تبدّل الأحياء الراقية ودلالاتها – عسيراً، فإن مناوشة الفكرة القاضية بإنكار ذلك الزعم ممكنة ويسيرة من باب “لم لا؟”، أي لم لا تكون الموضة محرِّضاً أساساً على بروز حيٍّ راقٍ واختفاء آخر من معالم عاصمة أو مدينة كبرى في أيٍّ من بقاع الدنيا الفسيحة؟

ستكون مهمة إثبات ذلك الزعم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بما نقصده من الموضة، وهو ما أشرنا إليه منذ قليل وفي مواضع أخرى متفرقة، ممثلاً في الدافع الرئيس للموضة وهو الملل من سيادة نموذج واحد – لأيٍّ من الأشياء أو الأفكار – ردحاً طويلاً من الزمان. الملل بهذا صفة جديرة بالتقدير، فهو بالمفهوم الديموقراطي محرِّض نبيل ضد سطوة أية ديكتاتورية وإن تكن منتخبة، ومعلوم أن كل ديموقراطية حديثة تضع حدوداً لاستمرار سطلتها الكبرى المنتخبة فتمنع إعادة انتخابها (بل إعادة ترشيحها) لأكثر من دورة أخرى جديدة، مهما يكن عمر الدورة الانتخابية وبصرف النظر عن أداء الرئيس المنتخب الذي قد يكون استثنائياً في بعض الأحيان.

مع الرئاسة في الدولة الديموقراطية لن يعدم المنظرون لتقييد إعادة ترشُّح الرئيس نفسه لأكثر من دورة انتخابية سبباً غير الملل لتبرير تقييدهم ذاك، وأبرز تلك الأسباب هو إتاحة الفرصة لمواهب وقدرات أجيال جديدة لا تنقصها الكفاءة لتأخذ دورها. وبرغم منطقية ذلك كسبب رئيس لعملية تداول السلطة (في الدولة المشتق اسمها أساساً من التداول) فإن الملل (محرِّض الموضة الرئيس) يتوارى في تقديري في وجداننا وعقولنا الباطنة كدافع عميق ولذيذ يتيح لنا زعزعة كل فكرة أفلحت في الثبات أكثر مما ينبغي، لتبرز بعدها التنظيرات فقط لتقرِّر الفترة المقصودة بـ”أكثر مما ينبغي” لتكون دورتين مدة كل واحدة أربعة أعوام كما في لوائح أشهر انتخابات رئاسية في العالم على سبيل المثال.

في المقابل تلد بعض أنظمة الحكم المتدثرة برداء ديموقراطي أعرافها الخاصة التي تنطلي على مجتمعاتها في غضون ما تدفع به إلى عقولها الباطنة كحُقن مهدئة تنسرب إلى أوردة تلك المجتمعات فتجعلها تستلذ الثبات، وهو ما عبّرت عنه إحداهن لصديقة لها من دولة مجاورة سألتها هل رئيسكم يحظى بشعبية كبرى؟، ردّت: لا، فسألتها الصديقة: تنتظرون إذن تغييره؟، ردّت مجدداً: لا، وعندما سألتها الصديقة مندهشة: لماذا؟، أجابت: تعوّدنا عليه. ذلك اختبار قاسٍ لفكرة الموضة عندي بوصفها المحرِّض الرئيس على التغيير، وإذا كان ممكناً هنا التماس التبرير في أكثر من دافع كالخوف أو الإحباط أو غيرهما من مؤثرات نفسية واجتماعية وقدَرية متداخلة، فإنه مما يلذ لي – تأكيداً على دور الموضة المتاحة قراءتُه باستمرار كما أزعم – أن أصف هنا ذلك الصنيع (بحسب إفادة الفتاة لصديقتها) بأنه “الملل من التغيير”، في مفارقة تعبيرية ومنطقية أرجو أن تجوز، وبعض التمهّل على كل حال كفيل بأن يكشف أن تعبير “الملل من التغيير” لا ينطوي على مفارقة ذات بال، فالملل هو الآفة الشعورية التي بإمكانها أن تجتاح كل فكرة وإحساس، بما في ذلك الفكرة وعكسها والإحساس وضدّه، وهكذا تجد الموضة باستمرار متسعاً لها في الظهور بشكل أو آخر هو نقيضه – مهما يكن – في كثير من الأحيان.

بالعودة إلى الأحياء الراقية، وتحديداً إلى الموضة مع الأحياء الراقية، يمكن التماس العذر لضرورة تبدّل الأحياء الراقية (تجليات الحي الراقي نفسه أو بروز أحياء راقية أخرى منافسة) في التطوّر الذي يقذف بموضة معمارية مغرية بالتقليد أو تقنية حديثة في البناء لا مفر منها عند تشييد البيوت الجديدة أو إعادة تأهيل ما أكل عليه الدهر وشرب من بيوت باتت آيلة للسقوط وكانت قبل عقود قليلة رمزاً لجمال ورُقيّ تصعب مجاراتهما.

يشي لي صديق لا يخلو من مكر منطقي بأن تبدّل الأحياء الراقية كثيراً ما يقع بفعل فاعل، إذ تتبدّل النخب النافذة في هذا البلد وذاك، ومع ذلك التبدّل لا تعدم نخبة نافذة – صعدت في مجملها من الطرف المنسي المضاد لبعض الأحياء الراقية – أسبابَها الخاصة الوجيهة كي تطمس معالم الرُّقي في ما كان يستفزها من الأحياء وتروِّج لأحياء جديدة لا تبخل عليها من المال والسلطة بما يهيِّئ لبروزها بوصفها الرموز الأكثر حداثة لما تصح استساغتُه من علامات الوجاهة الاجتماعية ودلالات الرقي المديني في الأحياء.

بعيداً عن أية نظرية مؤامرة، وبمنأى من الموضة ودافعِها الملل، يمكن التماس العذر لحتمية تبدّل الأحياء الراقية في مفهوم “البِلَى الطبيعي بالاستعمال”، ترجمةً للمصطلح الإنجليزي Wear and Tear ، فمع السُّنّة القاضية بتقادم الأحياء السكنية بُعَيد عقود يسيرة من إنشائها (على غير ما يحلم سكانها وهم يدخلون بيوتهم التي أنشؤوها بغرض الخلود، ووهْم الخلود في بيت يملكه الواحد ليس مقصوراً على أرباب الأحياء الراقية على كل حال)، مع تلك السُّنّة يغدو من الطبيعي اعتلاء أحياء جديدة سلّمَ الرقي الاجتماعي في أية مدينة، فليس منطقياً الإيعازُ لكل سكّان الحي الراقي القديم بضرورة ترميم بيوتهم التي تقادم معظمها حتى كاد يهلك، فكثير من سكان تلك البيوت لم يعد كما كان من قبل في أعلى سلم النفوذ الاقتصادي والاجتماعي، بل تبدّل به الحال إلى غير ذلك، وربما عكس ذلك.

Exit mobile version