عمرو منير دهب يكتب: المرأة والموضة

nasdahab@gmail.com

 

مع المرأة نغدو أمام واحدة من أظهر حالات مواجهة فكرة الموضة جرأة، إن لم تكن أجرأ تلك الحالات على الاطلاق، فحواء وحدها مَن ظلّ يعدو نحو الموضة بإصرار وثقة غير عابئة بوابل الغمز واللمز المتواصل من المجتمع عموماً، ومن الرجل تحديداً (وحصراً؟) بطبيعة الحال.

فإذا صحّ زعمنا أن الموضة من جواهر أفكار الحياة المتمكنة من نفوسنا وليست مجرد قشرة من أظهر قشورها كما يروِّج منتقدوها، فإن المرأة لا تُعَدّ سبّاقة فحسب إلى التقاط تلك الجوهرة وإنما رائدة في الصبر على مكاره إشانة السمعة جرّاء العدو خلف سفاسف الأمور كما ظل يتلذذ مكايدوها (الرجال وحدهم؟) بالترويج بشأن صنيعها إزاء الموضة.

أفسحت المرأة مجالاً للرجل على هامش عالم الأزياء، سواءٌ على طرفَي منصة العرض في أمسية برفقة زوجته، أو على متن المنصة كاستعراض جانبي في المستقطع من فضول أوقات حواء تأذن لآدم خلالها بمحاكاتها تفضّلاً بداعي تلافي الملل على الأرجح. وإن يكن جديراً بالانتباه أن آدم كان حاضراً بقوة ابتداءً بوصفه الشيطان الذي أوعز إلى حواء هذه البدعة وظل يهيمن على ميادين التصميم والتسويق لأمد طويل قبل أن تقرر حواء اقتحام تلك الميادين بوضوح مؤخراً، وذلك مقابل إفساحها مساحات زمنية أكبر على منصات العرض للرجل يمشي فيها متبختراً في ما يبدو اتفاقاً ضمنياً بين الجنسين على تبادل الاجتراء على المناطق المحظورة على كلٍّ منهما بدرجة أو أخرى من أطياف المجتمع على اختلافها واختلاف كل مجتمع من حيث التحفّظ حتى في هذه المرحلة المتقدمة من زمن التحرر على نمط العولمة.

برغم اجتراءات الرجل المشار إليها أعلاه، لا تزال حواء هي المتسيِّدة لعالم الأزياء، فمشاركات آدم لا تزال خجولة تمثل استثناءً في عالم الرجال حتى لدى أكثر المجتمعات تحرراً، فضلاً عن الفكرة الأساس التي لا تزال حواء مستمسكة بها بقوة (ومن قبل بتلقائية) فيما يتعلق بالنظر إلى الموضة كمسألة جوهرية في الحياة دون مبالغة في تأكيد الفكرة بأكثر من الإصرار السلس وبما لا يخلو من المخاتلات الذكية المعهودة عنها.

الأرجح أن حواء تعرف كيف تصمد إزاء مكايدات الرجل، والمجتمع بصفة عامة، فيما يخص انصرافها إلى تبجيل فكرة الموضة مع الأزياء لأنها ابتداءً تعرف كيف تنافح دون مواقفها حتى وهي تنصرف إلى ما لا تجادل كثيراً بخصوص كونه انصرافياً بحتاً من شؤون الحياة. فإذا دعت “الضرورة” امرأة إلى التعلق بـ”قشرة” من قشور الحياة فلن تتجشّم مستحيلَ تفسير “القشرة” على أنها لبّ، بل ستعوِّل في انصرافها ذاك على أن تلك “القشرة” هي بمثابة اللبّ بالنسبة لها، أو أنها أهم من اللبّ في تقديرها، وليس مما يعنيها أن يقتنع الرجل برؤيتها قدر ما يهمّها أن لا يعرقل مسيرتها نحو ما ترغب في الوصل إليه، ومن ثمّ توريطه من حيث لا يحتسب من باب الإذعان بالصمت، وهو ما يتطوّر على الأرجح إلى نوع من المشاركة القسرية على سبيل الاصطحاب بشكل أو آخر في الرحلة نحو هدفها المنشود.

نظرة حواء إلى الذهب موضع آخر لا تتجلى فيه فحسب جرأتُها في الانصراف إلى ما هو برّاق وجميل، وإنما كذلك قدرتها على المزاوجة بين الانبهار غير المتحفِّظ بالبريق وبين التقدير العميق للجوهر الكامن خلف ذلك البريق دون حرج في المزاوجة المتوازنة أو حتى المائلة إلى ترجيح كفة البريق على الأقل في الظاهر من إمارات الافتتان. بهذا ظل الذهب – أشهر مقتنيات الوجود دلالةً على أصالة الجوهر – قابلاً لأن يستوعب لدى المرأة فكرة الموضة كاملةً بترقُّب الأشكال (والألوان) الجديدة مع مطلع كل عام، أو مع كل دورة موضة وإن تكن ما تقتضيه كي تكتمل من عمر الزمان دون الحول بقليل أو كثير. وكما هو شأن كل موضة، يعود من الذهب ما كان رائجاً قبل عقود ليتصدّر واجهات محلات الصاغة الزجاجية، بينما تبقى بعض الأشكال صالحة للتداول باستمرار على هامش الموضة في كل أوان.

وإذا كانت الموضة تطال جواهر الأشياء مثلما تطال مظاهرها كما نؤكد باستمرار، فإن تراوُح الناس بين تبجيل الجوهر والاهتمام بالمظهر يصحّ القول في شأنه كذلك بأنه خاضع لتأثير الموضة، ليس استبداداً كليّاً لأحد الجانبين على الآخر وإنما علوّاً في الحظوة والتأثير من قبل أحدهما على الآخر. وفي هذا تبرز حواء مجدداً متميزة، فهي ليست مولعة بالاهتمام بالمظهر على حساب الجوهر ابتداءً كما يسارع غريمُها الرجل باتّهامها كل مرة، قدرَ ما هي مولعة بتقفِّي قواميسها الخاصة في تعريف ما هو جوهري، فضلاً عن سبقها إلى جرأة مواجهة الذات فيما نشير إليه بوصفه مظهريّاً بينما هو يحتل مكاناً عميقاً (جوهرياً) في نفوسنا.

Exit mobile version