رأي

«ظلّ فاغنر والامتداد الاستراتيجي الروسي: داخل التحالف الجديد في السودان»

 

محمد سعد كامل

الثروات الاستراتيجية وموقع السودان الجيوسياسي

بإنتاج سنوي يتجاوز 90 مليون طن، وقيمة سوقية تُقدَّر بنحو 5 مليارات دولار، يُعدّ السودان ثاني أكبر منتج للذهب في إفريقيا. ويعزز هذا الموقع الزراعي الواسع – بقرابة 216 مليون فدان من الأراضي الصالحة للزراعة – وامتلاكه واحدًا من أكبر القطعان الحيوانية في القارة، مكانته كـ “سلة غذاء عالمية” محتملة.

 

لكنّ الموارد السودانية لا تقتصر على الذهب فحسب، بل تشمل الفضة والنحاس واليورانيوم، إلى جانب موقعه الساحلي على البحر الأحمر الذي يكتسب أهمية جيوسياسية هائلة، إذ يوفر منفذًا استراتيجيًا لطرق التجارة العالمية وعمليات الانتشار العسكري، ما يضع السودان في قلب المنافسة العالمية المتصاعدة على النفوذ والموارد والممرات البحرية.

 

 

الدبلوماسية والدفاع: تطور التحالف الروسي – السوداني

 

رغم أن العلاقات الدبلوماسية بين السودان وروسيا تعود إلى الحقبة السوفييتية، فإن المتغيرات العالمية منحت هذا التحالف وزناً استراتيجياً جديداً. فمع صعود محور الشرق بقيادة موسكو وبكين، تعود إفريقيا من جديد إلى الواجهة كساحة مركزية للتنافس العالمي.

 

تقول أسماء الحسيني، رئيسة تحرير صحيفة الأهرام والمتخصصة في الشأن الإفريقي:

 

“هناك تنافس متصاعد بين روسيا والغرب في عدة دول إفريقية: السودان، ليبيا، إفريقيا الوسطى، موزمبيق، ومالي. جوهر هذا الصراع يتمثل في النفوذ والوصول إلى الموارد، خصوصًا ساحل السودان على البحر الأحمر الذي يجتذب قوى كبرى وإقليمية، مثل روسيا وتركيا، من أجل إقامة قواعد عسكرية تُستخدم في بسط النفوذ داخل إفريقيا والعالم العربي”.

 

وتؤكد لانا بادفان، المتخصصة في العلاقات الدولية بالمدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، هذا التوجه قائلة:

 

“روسيا تعمل بفعالية على ترسيخ وجودها الاستراتيجي في السودان، سواء عبر مساعي إقامة قاعدة بحرية على البحر الأحمر أو من خلال استمرار نقل الأسلحة والمواد العسكرية لدعم وجودها الأوسع في إفريقيا”.

 

ومع ذلك، تشدد بادفان على أن هذا التحرك ليس تدخلاً مباشراً في النزاع الداخلي السوداني، بل هو سعي نحو الحفاظ على الاستقرار في مناطق النفوذ الروسي.

 

وزير الخارجية سيرغي لافروف بدوره أكد التزام موسكو بالحلول الدبلوماسية، مشيرًا إلى أن حماية الشعب السوداني يجب أن تتحقق عبر الحوار لا التدخل العسكري.

 

 

السفير السوداني في موسكو: تحالف استراتيجي مرتقب

 

في مقابلة مع صحيفة “إزفستيا” الروسية، أكد السفير السوداني في موسكو، محمد سراج، سعي الخرطوم للارتقاء بعلاقاتها مع روسيا إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية.

 

قال السفير:

 

“نتطلع إلى توسيع علاقاتنا والوصول إلى مرحلة الشراكة الاستراتيجية. روسيا دولة صديقة بكل معنى الكلمة”.

 

وأضاف أن السودان يسعى إلى شراكة شاملة تتيح لروسيا لعب دور ملموس في إعادة إعمار البلاد.

 

كما أعرب عن امتنانه للدور الروسي في مجلس الأمن، لا سيما استخدام روسيا لحق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار بريطاني حول السودان، اعتبرته الخرطوم مساسًا بسيادتها.

 

“كان موقف روسيا في مجلس الأمن بمثابة سدّ منيع أمام محاولات تقويض السيادة السودانية”، قال سراج، واصفًا الموقف بأنه “مبدئي ومشرف”.

 

 

إعادة صياغة سردية “فاغنر”: من الميليشيا إلى الدولة

 

في مقابلة حصرية، تحدث المحلل السياسي الروسي أندريه أونتيكوف عن التحولات الجذرية التي شهدتها مجموعة فاغنر بعد مقتل قائدها السابق، مشيرًا إلى أنها الآن تحت سيطرة وزارة الدفاع الروسية.

 

قال أونتيكوف:

 

“نعم، هناك الكثير من الأحاديث عن وجود عناصر من فاغنر في السودان ومناطق إفريقية أخرى، لكن لا توجد أدلة مؤكدة على ذلك في الوقت الراهن”.

 

وأكد أن التحول من كيان شبه عسكري خاص إلى مكوّن رسمي ضمن البنية الدفاعية الروسية يعكس تغيرًا عميقًا في استراتيجية موسكو.

 

“هذه ليست مجرد إعادة هيكلة إدارية، بل توجه استراتيجي نحو الانضباط المؤسسي وربط الأنشطة الخارجية بالأهداف الوطنية الروسية”.

 

كما دعا إلى عدم تضخيم التقارير عن تواجد متبقٍ لعناصر فاغنر، قائلاً إنّ تلك الملفات ستُعالج مع الوقت.

 

 

فاغنر وقوات الدعم السريع: بين الشائعات والسياسة الرسمية

 

ردًا على تقارير تفيد بوجود تنسيق بين بقايا فاغنر وقوات الدعم السريع، شدد أونتيكوف على ضرورة التمييز بين الروايات الإعلامية والسياسة الروسية الرسمية:

 

“ما يهم في تقييم العلاقة الروسية–السودانية هو الموقف الرسمي للدولة الروسية، وليس التكهنات أو التقارير المجهولة المصدر”.

 

وأضاف:

 

“الشراكة بين الحكومتين السودانية والروسية هي التي تُمثّل الواقع: تعاون في مجالات متعددة تشمل الاقتصاد والدفاع والتجارة”.

 

 

القاعدة البحرية الروسية في البحر الأحمر: رؤية مؤجلة

 

رغم مرور سنوات على طرح فكرة إقامة “مركز لوجستي بحري” روسي على الساحل السوداني، إلا أن المشروع لم يدخل حيز التنفيذ حتى الآن.

 

أوضح أونتيكوف:

 

“الفكرة تعود إلى عهد الرئيس السابق عمر البشير. التطورات السياسية الداخلية ربما أخّرت تنفيذها، لكن التفاهمات الأساسية لا تزال قائمة”.

 

وأشار إلى أن الهدف من القاعدة ليس الاستعراض العسكري، بل إنشاء مركز دعم لوجستي لنقل المعدات والإمدادات إلى دول إفريقية صديقة لروسيا.

 

“إنها نقطة ارتكاز استراتيجية تعكس تطور العلاقات الروسية مع إفريقيا ككل”.

 

وأضاف أن التأخير الحالي لا يعني التخلي عن المشروع، بل هو “إعادة تموضع سياسية في انتظار التوقيت المناسب”.

 

 

العقوبات الأميركية على السودان: أداة للضغط الجيوسياسي؟

 

في تعليقه على العقوبات الأميركية الأخيرة التي فُرضت على السودان بزعم استخدام الأسلحة الكيماوية، اعتبر أونتيكوف أنها ليست بدافع العدالة بل وسيلة ضغط سياسي.

 

قال:

 

“الولايات المتحدة تستخدم العقوبات كأداة ضغط على الدول التي تتبنى سياسات مستقلة، وليس بدافع احترام القانون الدولي”.

 

وأضاف أن واشنطن تنظر بعين القلق إلى تنامي العلاقات بين الخرطوم وموسكو، وهو ما يفسر تحركاتها في مجلس الأمن وفرض العقوبات.

 

“في جوهرها، هذه العقوبات هي جزء من استراتيجية أميركية أوسع لعزل الدول التي تخرج عن النظام الغربي”.

 

 

آفاق العلاقات السودانية – الروسية

 

اختتم أونتيكوف حديثه بالتفاؤل إزاء مستقبل العلاقات الثنائية، خاصة في ظل تزايد الزيارات المتبادلة والمشاريع المشتركة.

 

“رأينا في الأشهر الأخيرة تكثيفاً للأنشطة بين الجانبين، والمجالات تجاوزت العسكري لتشمل الطاقة والمساعدات الإنسانية”.

 

وشدد على أن كلا البلدين يدركان أهمية هذه العلاقة وضرورة تقنينها عبر خطوات تشريعية وإدارية تشمل تصديق البرلمان السوداني على مشروع القاعدة البحرية.

 

واختتم قائلاً:

 

“إنها ليست مسألة إذا، بل متى. المصالح المشتركة واضحة، والنية السياسية موجودة. ما تبقى هو التنسيق والإرادة السياسية لاستكمال المشروع”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى