إعادة الإعمار
الصاوي يوسف
إعادة الإعمار بعد الحروب هو عمل ضخم لا يشبه الأعمال التنموية العادية التي تتم في أزمنة السلم. فالدمار الذي تحدثه الحرب عادة ما يكون قد عاد بالبلاد إلى عدة عقود للوراء، وتبدو البلاد بعد انتهاء الحرب وكأنها خارجة لتوها من العصور القديمة أو على الأقل القرن الماضي. وعلى الرغم من ضخامة وصعوبة المهمة، إلا أنها أولاً ليست مستحيلة وثانياً هي في الواقع فرصة لبناء بعض الجوانب بأفضل مما كان قبل أن تدمره الحرب. وقد ذكرنا في المقال السابق نموذج إعادة بناء ألمانيا بعد الحرب، والتي كانت قد دُمّرت بالكامل.
الوضع في السودان سيكون أفضل كثيراً من ألمانيا من حيث حجم الخسائر، فالخرطوم لم يدكها طيران الحلفاء بحيث لم يبقَ فيها مبنى قائم ولا مؤسسة عاملة، فأغلب منازلها ومبانيها قائمة، ولكنها قد تعرضت للتدمير الجزئي والحرائق والنهب من الداخل، كما تعرضت مؤسسات مثل محطات المياه والكهرباء والمصانع والمستشفيات والجامعات وغيرها للتخريب والنهب والإتلاف كلياً أو جزئيا. كما تعرضت الطرق والكباري والمطار وغيرها من منشآت البنية التحتية للتخريب والدمار الجزئي.
الخطوة الأولى، بعد حصر هذه الخسائر وتحديد مدى الدمار وما تحتاجه لإعادة إعمارها وإعادة تشغيلها، هو إعادة الخدمات من ناحية وظيفية، قبل إعادة إنشاء المباني والمؤسسات من حيث الشكل. فعودة التلاميذ للدراسة وعودة المستشفيات لأداء وظائفها خاصة في مجالات الرعاية الصحية الأساسية والطوارئ، لا تنتظر حتى يوجد التمويل وتقوم شركات المقاولة بالبناء والتجهيز، بل لابد من عودتها فوراً وبالحد الأدنى المتاح من الإمكانيات، وهذا هو التحدي الذي يجب أن يتصدى له شعبنا وإداراته المسؤولة، وهو أن تستمر الحياة وأن يوقف نزيف الخسائر البشرية، حتى بدون المنشآت المثالية الكاملة. فالدراسة مثلا، ولو في مباني مؤقتة وغير نموذجية، خير من ضياع مزيد من أعمار التلاميذ، والعلاج في مراكز صحية بسيطة وقليلة التأهيل من حيث المباني، خير من توقف الخدمة ومعاناة المواطن في السفر للبحث عن العلاج.
الخطوة الثانية المطلوبة هي البحث عن التمويل لعملية إعادة الإعمار، وهي ذات تكلفة مهولة بلا شك. وإذا كان المواطن هو الأولى بالرعاية والعناية والإسعاف العاجل، بعد الخسائر الكبيرة والمتراكمة عليه من فقدان المسكن والسيارة والأموال وكل الممتلكات، إضافة إلى فقدان مصدر الدخل لفترة طويلة، واستنزاف أرصدته خلال فترة النزوح، فإنه هو الأولى بالتعويض العاجل. ويمكن للدولة أن تتخذ قرارات عاجلة تستبق بها الإجراءات القضائية الطويلة، بصرف تعويض عاجل لكل متضرر، ولو بنسبةٍ ما من خسائره الفعلية، وذلك خصماً من أموال المليشيا الإرهابية المتمثلة في بنوكها وشركاتها وأرصدتها وعقاراتها. كما لابد من تكوين جهازٍ قانوني وإداري للقيام بالحصر الدقيق للخسائر، إذ لا يكفي فقط التبليغ عن خسارة ما لاعتمادها، فلابد من لجان مسحية تقف على أرض الواقع وتقوم برصدٍ دقيقٍ ومفصل، مع وجود المستندات والإثباتات، وتسجيل الخسائر وتصنيفها، ويتم التفاضل عند دفع التعويضات العاجلة لصالح الضعفاء الذين فقدوا المأوى ومصدر الدخل (مثلاً أسرة فقيرة تسكن منزلاً بسيطاً وكان مصدر دخلها ركشة أو سيارة تاكسي) حتى تأخذ الأولوية على مستثمرٍ فقدَ عمارةً أو اسطولاً من السيارات أو مصنعا.
أما بالنسبة للبنية التحتية من طرق ومطارات وكباري، ومحطات الكهرباء والمياه والوزارات الحكومية والجامعات والمتاحف وغيرها، فعلى الدولة البحث عن التمويل من مصادر متعددة ومتنوعة. فمؤسسات مثل البنك الدولي (عبر وكالة التنمية الدولية) لديها قنوات للمنح والقروض الميسرة للدول التي تعاني من ضعف بنياتها وتلك الخارجة من الحروب والصراعات والشديدة الفقر. كما يمكن للدولة الاستعانة بمنح وقروض من الدول الصديقة من كل أنحاء العالم، وكثير من الدول لديها وكالات للعون والتنمية الدولية (مثال اليابان، كندا، هولندا، السويد) وهناك دول صديقة وشقيقة يمكنها تقديم منح وقروض ميسرة لإعادة التعمير، مثل الصين، والسعودية والكويت وتركيا وغيرها. ومن أهم مصادر التمويل هو الاستثمار الأجنبي بنظام البناء والتشغيل ونقل الملكية (معروف باسم البوت)، ويمكن طرح مشروعات البنية التحتية بهذه الصيغة للمستثمرين من الدول كافة، خاصة الدول الصديقة، لأنها مشروعات ذات عائد مضمون، ولن يتردد المستثمر في إنشائها لأنه يديرها بنفسه حتى يستعيد كل رأسماله ويأخذ أرباحه، قبل نقل ملكيتها للدولة السودانية بعد فترةٍ متفقٍ عليها. ومن مصادر التمويل المهمة هي أموال واستثمارات رجال الأعمال السودانيين، والمهاجرين والمغتربين، وهؤلاء لديهم دافع وطني للمساهمة في إعادة إعمار بلادهم، ولكن بشرط توفر البيئة الجاذبة والملائمة للاستثمار، وأول شروطها الاستقرار الأمني والسياسي، ثم التشريعات المشجعة والجاذبة والمحفزة، وتوفر الحد الأدنى من الخدمات الضرورية كالكهرباء والطرق. وكل مصادر التمويل المحتملة هذه لا يمكن الحصول عليها دون تحقيق نفس هذه المطلوبات، فالاستقرار الأمني والسياسي هو شرط أساسي لقدوم أي تمويل أو استثمار، والتشريعات الجاذبة والتي تقضي على البيروقراطية القاتلة وعلى الفساد هي من أهم مطلوبات أي مستثمر قبل القدوم إلى أي بلد. وكذا إعداد الدراسات الاحترافية الجيدة التي توضح بالتفصيل مزايا كل مشروع ومزايا الاستثمار فيه. وفي فترة بعد الحرب لابد من ثورة كبيرة وشاملة في إجراءات الاستثمار وقوانينه ولوائحه، مع تقصير المسافة والخطوات المطلوبة لتسجيل الشركات المحلية والأجنبية، وتوحيد نوافذ التصديق العديدة، وإيجاد جهاز قانوني وإداري فعال وذي سلطات كبرى، لمراقبة تلك الإجراءات، ومحاربة الفساد الذي، للأسف، اشتهرت به بيئة الاستثمار في السودان. ويمكن التعلم من تجارب دول مثل إثيوبيا ورواندا، إذا لم نصل مرحلة سنغافورة ونيوزيلاند وهولندا.
تحتاج مرحلة إعادة الإعمار، إضافة إلى التمويل، إلى مدخلات أخرى مهمة، منها اليد العاملة، والخبرات والمعارف، والتقنية، ومنها المواد الخام والآلات والمعدات. ففي مجال الأيدي الماهرة لابد من الاستعانة بالسودانيين ذوي المهارة والتدريب، من العاملين داخل وخارج السودان، ولأن الكوادر الماهرة قليلة وأغلبها مهاجر ولن يعود بسهولة، فلابد من الاستعانة بيد عاملة من مختلف البلدان، وفي هذا الجانب يجب التخلص من فوبيا الأجانب المزمنة، والتي ازدادت كثيراً في هذه الحرب بسبب مشاركة المرتزقة فيها، وربما بسبب معاملة بعض دول الجوار للسودانيين الذين لجأوا إليها. ولكن الحقيقة أننا لسنا كائناً معزولاً عن هذا العالم وواقعه وحقائقه، فبالرغم من أهمية الشروع فوراً في تدريب الشباب وإنشاء معاهد ومراكز تدريب تقنية (سنأتي على تفصيلها في مقال خاص عن التعليم) إلا أننا سنكون بحاجة إلى عدد كبير من الأيدي الماهرة المدربة لإكمال عملية إعادة الإعمار في أسرع وقت وبأفضل المواصفات وأجودها، ولذا لابد من استجلاب عمالة ماهرة، وأركز على كلمة ماهرة هذه، من الخارج. من دول مثل الصين والعراق ومصر والمغرب وسوريا وتركيا وغيرها. وقد ذكرنا من قبل أن ألمانيا نفسها استعانت بعمال من تركيا والمغرب في فترة إعادة بناء ما دمرته الحرب.
كما نحتاج إلى المواد الخام والتي لن تتوفر بكميات كافية داخل البلاد، مثل الأسفلت والأسمنت والحديد والبلاستيك، وإلى مواد البناء والكهرباء، وإلى معدات وآليات وأجهزة كثيرة ومتنوعة، من شاحنات وسيارات ومعدات البناء والرافعات وحتى الأجهزة المنزلية كالثلاجات والمواقد (البوتجازات) وغيرها، ولذلك لابد من تسهيل إجراءات الاستيراد والجمارك ولو لفترة بضع سنوات حتى يتم تعويض ما تم نهبه وتدميره منها، كما يمكن للدولة عقد اتفاقيات مع دول مجاورة وشقيقة مثل السعودية، لتوريد أسفلت بكميات كبيرة وأسعار تفضيلية مع تسهيلات في الدفع، ومع السعودية ومصر لتوريد الأسمنت والحديد، ومع الصين لتوريد معدات البناء والتعمير كالرافعات والشاحنات وغيرها. يجب أن يتزامن هذا مع نهضة سريعة في قطاع الزراعة، خاصة تلك المخصصة لمحاصيل الصادر، ذلك أن الزراعة سريعة العائد ولدينا موسمين في السنة، أي أننا نحصل على عائد الموسم في 6 شهور أو أقل. وهذا الأمر مهم جداً لتغطية العجز الضخم المتوقع في ميزان المدفوعات، بما أن البلاد سوف تكون بحاجة إلى استيراد كميات ضخمة من المواد والمعدات، بأكثر مما هو معتاد في السنوات السابقة.
لقد ذكرنا في المقال السابق كيف أن فرص الصادر متوفرة في دول قريبة مثل دول الخليج، ولمنتجاتٍ نملك فيها ميزة نسبية عظيمة، مثل زيوت الطعام (الحبوب الزيتية) والخضروات كالبامية والشمام والطماطم، والأعلاف، والحمضيات خاصة الليمون، والمحاصيل المعروفة كالكركدي وحب البطيخ والصمغ. ولهذا الغرض فلا بد من قيام وفود من وزارات التجارة والزراعة والثروة الحيوانية واتحاد أصحاب العمل وغرفة المصدرين، بزيارات للدول المستهدفة وعقد اتفاقيات تصدير وتوريد، وفقاً للمواصفات والمطلوبات التي تحددها تلك الدول. وفي هذا المجال لابد من توفير التمويل المحلي للمزارع المنتج عبر نظم التمويل الزراعي المصرفي، والتمويل التعاقدي مع شركات القطاع الخاص الكبيرة والخبيرة مثل الشركة الأفريقية (محجوب أولاد) وعبر التمويل الأصغر. ويمكن في هذا القطاع الاستعانة بقروض من بنوك تنموية إقليمية مثل بنك التنمية الإسلامي والبنك الأفريقي للتنمية والصندوق الكويتي وغيرها، وكلها لنا معها تجارب سابقة ناجحة.
يبقى أن نذكر أن كل عمل إعادة الإعمار يعتمد على وجود جهاز إداري مقتدر ومؤهل، وعلى جهاز سياسي يملك الإرادة والرغبة لإنجاز ذلك العمل، بعيداً عن المماحكات والمنافسات والصراعات، وعن الأجندات الذاتية والاحتكارية والإقصائية. وسنأتي إلى تفصيل ذلك في المقال الأخير عن الإصلاح السياسي والإداري، ولكن يجب التنبيه هنا والآن، أن إعادة الإعمار هي عملية مجتمعية، وعملية دولة كاملة وشعب، ولن تنجح ما لم تقف معها كل قوى المجتمع، وكل مؤسساته، في تنسيق وتناغم وتعاون، ووفق خطةٍ واحدةٍ موحدة، يتم التوصل إليها بالتوافق، بعد دراسات علمية وعملية، يقوم بها خبراء متجردون ومتخصصون، وعلى دراية بواقعنا ومطلوباتنا، وهؤلاء بحمد الله كثرٌ في بلادنا، وإن كان بعضهم يقيم في الخارج مهاجراً، فما أسهل التنسيق والتشبيك في زماننا هذا. ونستطيع إقامة ورش عمل لكل مجال من المجالات، وورش للتنسيق، يشارك فيها جميع المعنيين بالأمر من وزارات الدولة وولاياتها ومؤسساتها وبكل تخصصاتها، ويشارك فيها الخبراء من أكاديميين وعلماء ومهنيين، أينما كان موقعهم في الأرض. وقد شرع البعض بمبادراتٍ محمودةٍ منهم، في دراسة بعض الجوانب وإعداد دراسات عنها، ستفيد كثيرا في مقبل الأيام، وسنأتي على ذكر بعضها وتفصيلها في المقالات القادمة إن شاء الله.