سراب الرباعيَّة في صحراء السياسة السودانية

خالد محمد أحمد
كأنَّما كُتِب على بعض القوى في السودان أن تبحث دائمًا عن خلاصها في الخارج كلَّما ضاقت بها سبل الداخل. فها هم القحَّاطة ومَن تبقَّى من فلول الجنجويد يتسابقون اليوم إلى الترويج للرباعيَّة الدوليَّة بعدما خابت رهاناتهم القديمة وتهاوت مشاريعهم الخبيثة.
بالأمس، كانوا يلوِّحون بالنصر حين كانت قوات حليفهم الجنجويد تطرُق أبواب القيادة العامة. أمَّا اليوم، فإنهم يتشبَّثون بقشَّة الرباعيَّة علَّها تنقذ ما تبقَّى من أضغاث أحلامهم.
لقد تحوَّل هذا التعلُّق المحموم بالرباعيَّة إلى ما يشبه الهذيان السياسي، إذْ صار هؤلاء ينسجون خيوط أملٍ واهٍ حول حلٍّ مرتقب توحي الرباعيَّة بأنها قادرة على فرضه على السودانيين، متجاهلين أن الشعب لن يقبل أن يُحْكَم بوصايةٍ دوليَّة مهما تزيَّنت شعاراتها، وأنه لا يرى في الرباعيَّة بشكلها وأسلوب طرحها الحالي سوى طوق نجاةٍ يمدُّ القحَّاطة والجنجويد بالأوكسجين السياسي بعدما انقطعت عنهم أنفاس السلطة والنفوذ.
ولأنهم يدركون أن بوصلتهم قد تعطَّلت، أطلقوا حملةً إعلامية كثيفة لزعزعة ثقة الشعب في جيشه وقيادته من خلال بثِّ الشائعات والتشكيك في المواقف الوطنية. غايتهم تفتيت الصفّ الداخلي، وكسر الحاضنة الشعبية للجيش علَّهم يجدون منفذًا يعيدهم إلى المشهد عبر بوابة الخارج.
غير أن هذه الحملات، مهما اشتدَّ ضجيجها، لن تنجح في محو ذاكرة الشعب الذي خبر مكْرهم، ورأى بأمِّ عينه مِن أين أتَت الفتنة، ومَن حمل السلاح في وجهه، ومَن تاجر بثورته، ومَن رقص على حافَّة الخراب حين كانت رصاصات الغدر تُطلَق على أبناء الجيش والشعب المغلوب على أمره.
من قرأ أول فصلٍ في كتاب السياسة يدرك أن الإسلاميين لن يعودوا إلى ما كانوا عليه قبل أبريل 2019، وأن الجنجويد لن تقوم لهم قائمة بعد كلِّ ما ارتكبوه، وأن طريق القحَّاطة إلى السلطة لن يكون مُمهَّدًا كما وجدوه حين قطفوا ثمار ثورةٍ لم يزرعوها، بل انتزعوها من أيدي شبابٍ بذروا بذرتها.
وما لا يفهمه القحَّاطة والجنجويد حتى اللحظة، ويا لغبائهم وعمى بصيرتهم السياسيَّة، أن العامل الحاسم هو الشعب، وأن الغلبة ستكون لمَن يستميله إلى جانبه، والخاسر مَن استعداه أو سيفعل.
عليهم أن يفطنوا إلى أن الشرعيَّة الحقيقيَّة لا تُسْتجدَى من الخارج، بل تُستمدُّ مِن الأرض، مِن الناس الذين فقدوا أبناءهم وبيوتهم وثقتهم في كلِّ من خانهم.
عليهم أن يفهموا أن مَن أراد العودة إلى السلطة، فلْيبدأ بإصلاح علاقته بالشعب، لا باستجداء الرباعيَّة.
عليهم أن يدركوا أن السودان قد تغيَّر، وأن الشعب بات أذكى من أن تنطلي عليه شعارات الديمقراطيَّة الزائفة وحيلة الوصاية الدوليَّة، وأن مَن يظنُّ أن الرباعيَّة ستعيده إلى السلطة بشروطها رغم أنف الشعب، فإنما يطارد سرابًا في صحراء السياسة، ومَن يربط مصيره بها، فإنما يربطه بحبلٍ من دخان.
ولو أنهم استوعبوا طبيعة الشعب السوداني المكلوم، لعلموا أنه توَّاقٌ بالفطرة إلى سلامٍ بلا إملاءاتٍ من الرباعيَّة أو غيرها. سلامٌ ينصفه، ويعيد له كرامته، ويكفل له أن يقتصَّ ممَّن عاثوا في أرضه فسادًا وتنكيلاً بالعباد.



