زيارة البرهان إلى مصر: ما الجديد؟

فيما أرى
عادل الباز
1
يبدو أن كثيرًا من الدول العربية تتغيّر مواقفها الآن بسرعة هائلة تجاه ما يجري في السودان. فبعد التزام الحياد لفترة طويلة من اندلاع الحرب، تتسارع الآن الخطى في عدة اتجاهات؛ فبعض الدول تعيد تموضعها قريبًا من موقف الدولة السودانية، وبعضها ينحاز بشكل مباشر لدعمها.
تتقارب المواقف تجاه السودان الآن بين ثلاث دول بشكل مذهل: مصر، السعودية، وقطر. والسبب الذي جمع بين تلك الدول هو التطرف الشديد من الإمارات التي لا تعتني ولا تَأبَه بمصالح الآخرين ولا بأمنهم القومي، بل تسعى فقط لتنفيذ مشروعها الإمبراطوري دون أي اعتبار لأي طرف.
2
ما هي مؤشرات تغيير المواقف؟
لنبدأ بالموقف السعودي:
صبرت السعودية على محاولات الإمارات الانفراد بملف السودان وتكييفه حسب مصالحها، لدرجة أنها سعت لوضع “بندقية الجنجويد” على رأس السعودية وسواحلها. انتبهت السعودية، أو فاض بها الكيل، مؤخرًا من تحركات الإمارات، خاصة بعد أن قامت الأخيرة بترسيم حدودها البحرية بشكل أحادي، مما أدى إلى تصعيد الخلاف بين البلدين، إذ رفضت الرياض هذه الخطوة واعتبرتها انتهاكًا للاتفاقيات السابقة بينهما.
بدأت السعودية تتخذ مواقف حاسمة في الملف السوداني، ومن أبرزها:
أ/ في منتصف فبراير الماضي، رفضت المملكة العربية السعودية المشاركة في مؤتمر دعت له الإمارات بأديس أبابا، عُقد تحت عنوان “العون الإنساني رفيع المستوى”.
ب/ بعد مؤتمر المليشيا في نيروبي في فبراير، أكدت السعودية، في بيان بتاريخ 27 فبراير، “رفضها أي خطوات أو إجراءات غير شرعية تتم خارج إطار عمل المؤسسات الرسمية في السودان، وقد تمس وحدته ولا تعبّر عن إرادة شعبه، بما فيها الدعوة إلى تشكيل حكومة موازية”.
ج/ في 15 أبريل، رفضت السعودية التوقيع على البيان الختامي لمؤتمر لندن الفاشل، الذي انهار بسبب رفض السعودية ومصر وقطر التوقيع عليه. والسبب: تمسكهم بمؤسسات الدولة السودانية، وإصرارهم على الإشارة إلى الدعم الخارجي الذي تتولاه الإمارات.
د/ سارعت السعودية بتكوين لجنة على مستوى عالٍ جدًا زارت السودان واطلعت على كل الطلبات المتعلقة بالإعمار والإغاثة، وحتى الاحتياجات العسكرية!
هـ/ أرسلت السعودية وفدًا إلى دول الجوار السوداني، وهي الدول التي زارها شخبوط للتحريض على السودان. ورغم عدم تسرب معلومات دقيقة عن اللقاءات، إلا أن من الواضح أن الموقف السعودي الجديد قد خرج من ثوب الحياد والتوسط، إلى لعب دور مباشر ومرحب به من السودان.
قد بدأت السعودية بإعادة تأهيل سفارتها بالخرطوم، وكان الملحق العسكري السعودي أول من وصل إلى مقر السفارة مطلع هذا الأسبوع، وسجّل زيارة إلى القيادة العامة، في إشارة واضحة تقرأ في سياق التطورات الجارية كلها.
3
الموقف المصري :
تطور الموقف بشكل مذهل وعلني. وكانت مصر قد حدّدت موقفها من الحرب منذ اليوم الأول، بعد أن دمّرت المليشيا طائراتها واعتقلت بعضًا من قواتها في مطار مروي، وأسرت العشرات منهم. وقد حذّرت مصر المليشيا مسبقًا من أي مغامرة في السودان، لكن المليشيا، المدعومة من الإمارات، لم تأبه لتحذيراتها، متوهمة أن علاقاتها مع الإمارات ستمنع مصر من اتخاذ موقف ضدها. لكنها لم تُدرك أن مصر دولة قديمة، وكبيرة، وعظيمة، وأن أمنها القومي غير قابل للبيع أو المساومة، وليس معروضًا في أسواق “الدقلو” المسروقة في الإمارات!
مصر اتخذت الموقف الصحيح منذ اليوم الأول، لكنها آثرت العمل في صمت، وبطريقتها، للحفاظ على أمنها القومي في ظل عدوانية وهمجية المليشيات وداعميها. الجديد الآن أن مصر أصبحت أكثر مجاهرة بموقفها، منذ مؤتمر جنيف إلى مؤتمر أديس أبابا الذي رفضت المشاركة فيه، ثم إلى رفض بيان مؤتمر لندن، وإصرارها على إدانة الداعمين للمليشيات الذين باتوا معروفين للجميع، مع التأكيد على سيادة الدولة السودانية ومؤسساتها.
قبل مؤتمر لندن، شهدت الساحة السياسية العربية تحركات نشطة قادتها مصر في كل الاتجاهات، خاصة بعد زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي في 14 أبريل 2025 إلى الدوحة، والتي تم خلالها الاتفاق مع قطر على حزمة استثمارات مباشرة بقيمة إجمالية تصل إلى 7.5 مليارات دولار، تُنفذ خلال المرحلة المقبلة.
وهذه إشارة مهمة في وقت تمر فيه مصر بضائقة اقتصادية معروفة، تستغلها جهات للضغط على مصر لتنفيذ أجنداتها، التي تمس الأمن القومي في مقتل، وهو ما يمثل مقايضة خاسرة.
7
زيارة الفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى مصر امس تأتي بعد التطورات أعلاه، وتأتي أيضًا على أعتاب زيارة رسمية مرتقبة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السعودية، والإمارات، وقطر، في الفترة من 13 إلى 16 مايو 2025.
ومن المتوقع أن يكون ملف السودان حاضرًا، بعد تصريحات كثيرة لأعضاء من الحزب الجمهوري حول علاقة الإمارات بالدعم السريع وتمويله.
لكن ونظرًا للرشاوى التي تقدمها الإمارات للرئيس ترامب، النهم للمال والصفقات، فإنه على الأرجح لن يجرؤ على الضغط علي الامارات، خاصة في ظل التزامها باستثمارات في الولايات المتحدة بقيمة 1.4 تريليون دولار على مدى عشر سنوات.
لكن الأهم أن ترامب سيسمع رواية مختلفة عن الحرب في كل من السعودية وقطر، ومن المنتظر أن تعلن السعودية استثمارات في الولايات المتحدة بمبلغ 100 مليار دولار. أما عن السودان، فهو لا يمثل أولوية في برنامج ترامب، ولا يأتي في قائمة اهتماماته، والحمد لله.
8
ما يهمنا هنا هو التغيير المتسارع في الموقفين المصري والسعودي، وهو تطور يضع السودان في وضع مريح، وليس معزولًا سياسيًا. وحتى إن لم تقدّم الدولتان دعمًا ماديًا أو عسكريًا مباشرًا، فإن مجرد تغيير المواقف، إلى حدّ إفشال المؤتمرات والمؤامرات الإماراتية، ووضع تحركاتها تحت دائرة الضوء، يصعّب من مهمتها التدميرية. ومن المؤمل أن يتطور موقف الجارتين (السعودية ومصر) إلى دعم كامل، ليس فقط من أجل السودان، بل من أجل أمنهما القومي.
ولعل الإشارة التي جاءت في ختام بيان لقاء الرئيس البرهان والرئيس السيسي أمس: “تطابق رؤى البلدين في ظل الارتباط الوثيق للأمن القومي لكلا البلدين، وتم الاتفاق على مواصلة التنسيق والعمل المشترك لحفظ الأمن المائي للدولتين.” وهذه اهم فقرة في البيان، في ظل تحركات مريبة تسعى لإقحام أطراف خارجية في الحرب، وتلك قصة اخرى سنكتب عنها لاحقًا بإذن الله.