زاد المبدعين.. في غناء الشايقيَّة

فيما أرى
عادل الباز
(1)
حين تستلهم الحياة روحها من العشق تزدهي الأرض بالشعر والغناء. كانت أرض الشايقيَّة من أمري للغابة تنبت من عشق إنسانها لأرضه، تلك المحبَّة الشفيفة التي تعبِّر عن ذاتها بالشعر والغناء والرَّقص. رُواة هذا العشق كثيرون من مهيرة لبت نعمي لفاطمة بت ودخير.. من الطيب صالح لمحمَّد طه.. من حد الزين لحميد.. من النعام آدم وحتى طيف محمد كرم الله. محجوب كرار كان أكثر الولهين بهذا العشق الخرافي شعراً وغناءً، غاص محجوب كرَّار في عمق تراث تلك المنطقة وأبحر فيه منذ الخمسينيات، وعاد بأجمل ما أخرجت تلك الأرض من غناء.
ما زلتُ أذكُرُ مساءً قادني فيه الصديق أحمد عبدالله التوم، مدير تحرير صحيفة ‘الرائد’ لمنزلٍ بالحاج يوسف في آخر ليلٍ بهيم، جلسنا نستمع لشدو محجوب كرار وهو يقص علينا حكايات لو سمعها الطيِّب صالح لأثرى بها الأدب العالمي بأكثر ممَّا فعل. كان محجوب كرار في تلك الليلة يتدفق نثراً وشعراً والذاكرة ما شاء حافظة لأشعار منطقة الشايقيَّة وغنائها وتاريخها. استمتعتُ بمعرفة محجوب كرار ردحاً من الزمن على أيام بيت الثقافة (1994)، ولكني كلما أتذكر أنه مضى دون أن أسجِّل أو أدوِّن منه حكاياته، أشعُرُ بملحٍ مخلوط بتراب يعلق بحلقي.
لم يتركني ذاك الإحساس إلا حين نشر صديقي الأستاذ الشاعر إلياس فتح الرحمن سِفر “زاد المبدعين – محجوب كرار وشعر الشايقيَّة”. لم تكن تلك أوَّل خدمة جليلة تقدمها “مدارك” للمكتبة السُّودانيَّة، فمئات الكتب الجياد دفعت بها “مدارك” لساحة المعرفة، لم يرجُ منها إلياس جزاءً ولا شكوراً ولا مالاً، وما مشحود عليها كتَّر الله خيره وعطاياه لنا مجاناً!!
“الأمثال عند الشايقية” هو أوَّل كتاب أتعرَّف فيه على محجوب كرار، والآن يُقدِّم لنا الأستاذ سيدأحمد علي بلال كتاب “زاد المبدعين وشعر الشايقيَّة”، راصداً أجمل الحوارات التي أدارها مع محجوب كرار عن غناء وشعر الشايقيَّة. أُجرى اللقاء المنشور بالكتاب في مانشستر شمال إنجلترا في العام 1996. يقول فيه محجوب مُعرِّفاً بحقائق ما يتحدَّث به في الحوار: «حقيقة الأمر عند الكلام عن الشايقيَّة لا أعني بهم الشايقيَّة بشُلوخهم وبالمعنى القديم الضيِّق.. فن الشايقية وشعرهم يدخل في إطار ما يُسمَّى بوحدة ثقافيَّة، أعني بها وحدة مكان ووحدة تنوع عناصر.. إنهم أناس الشعرُ عندهم يتشابه ويتذوقونه بطريقة واحدة، وهُم يرتبطون على مستوى المشاعر». هذه هي البيئة التي تربَّى فيها محجوب والتي يقول عنها إنها بيئة تعشق التعبير الجميل والشعر الشعبي، وهو عند محجوب يُعينُك على فهم قيم الشُعُوب وعلى فهم إحساسهم وماهيَّة الجمال والطرفة عندهُم.
يعتبر محجوب شعر الشايقيَّة الشعبي شعراً وظيفياً وليس جمالياً، مُدلِّلاً على ذلك بالشعر الشعبي على أيام المهديَّة، التي ناهضوها لأنها حاربتهم في أرزاقهم، مستشهداً بأشعار الحردلو الكبير:
كبير الجماعة..
أب دقناً راخيها..
طاقيتو سعف بي
إيدو شافيها (حائكها)
يوصف في الجنة
تقول ناس أمو فيها.
وآخر يقول:
يا مهدية أمرك ما بقالي
سويتي الغشيم فوق راسي دالالي
ونفضي الرخيص سويتي غالي..
يشير محجوب إلى أنَّ من ضمن الوظائف التي يُؤديها الغناء الشعبي أو الشعر عموماً في منطقة الشايقيَّة تحديد العلاقات بين الناس، إلى جانب أنه يُجمِّل الحياة ويُنعِشُها. ويقول إنَّ أبرز ما في الشعر الشعبي في تلك المنطقة، هو الاهتمام بالمرأة وهي ليست موضوعاً للوصف فحسب، بل هي مُنتجة للشعر وماهرة في الغناء والرَّقص، ويستعين بشعر “بت نعمي – أمه”، للدلالة على قوَّة شعر المرأة (بت نعمي هي التي يردد ود اليمني أشعارها في رمياته المتميِّزة).
انت يالناسينا ما بنرضالك الشين
والله يغفر ليك حقوق الليكا والدين
لكن الرزق عند سيدو رسلو لينا في الحين
والله العيش قواسيب في محلين
وتمرنا نجض نحشوا تجارو قاعدين
ونقسم زكاتو على المساكين
إن قعدته مع السلامة وإن جيتنا يالزين
وإن ما جيتنا بننتظر الصغيرين..
ثم يدلف لشاعرة أخرى تُعبِّر عن حبها لزوجها بشغف خرافي:
الظريف مسواك الأراك
والله يعلم أني رايداك
ما بطيبلي المجلس بلاك
أنا وين لقيتك لامن آباك
راقدي في صدرك ومشتهياك..
يحكي محجوب عن الناقد عبدالمجيد عابدين أنه قال: «الحُب الحقيقي لا ينطفئ بالوصال الجسدي, الحُب حين يتأصَّل في النفس لا يطفئه اللقاء، فهو شيء روحي ونزعة نحو الاندماج الجسدي». وهو ما أشار إليه مقطع “راقدي في صدري ومشتهياك”.
(2)
في مقارنة جديدة بين قبيلة الجعليين والشايقيَّة من خلال الجُغرافيا والتاريخ والغناء والشعر، يجد محجوب كرار مداخل أدَّت لصنع الفوارق بين القبيلتين. يقول محجوب كرار: «الجعليون يعيشون أصلاً في “بوغار”، يعني هم يعيشون في ملتقى قبائل “قبائل شرق السُّودان وقبائل البطانة”، أرضهم مفتوحة، ولذلك هم دائماً منافحون عن أرضهم، يعني النداء للقتال عند الجعليين كثير».
هنا يشير محجوب إلى أنَّ شجاعة الجعليين التي يعتقد كثيرون أنها مورَّثة “جينياً” إنما جاءت بسبب التحديات التي تشهدها أرضهم بحُكم الجغرافيا وطبيعة المنطقة المفتوحة، وليس أصلاً في الجينات. يشير محجوب كرار في موقع آخر من الكتاب لعلاقة الشايقية بالمهدية والحروبات التي خاضوها ضدَّها، ثمَّ أعقبها بإشارة أخرى لمهيرة بت عبود وقصة طه والقيقر ليلفت إلى أنَّ الشايقية لم تكن تنقُصهم الشجاعة متى ما فُرِض عليهم القتال. فالتحديات والاستجابة لها في الظرف التاريخي والجغرافي هي ما يُعلي من شأن خُصَيِّصَة من الخصائص لا الجينات. فالشجاعة لا تُورَّث إنما تفرضها التحديات وطرائق الاستجابة لها. على العموم، هذا رأي كرار.. هل للجعليين رأيٌ آخر؟!
يذهب محجوب كرار ليقرأ في جغرافيا منطقة الشايقيَّة مُؤكداً على نظريته أعلاه من خلال الشعر هذه المرة: «أما الشايقية فأرضهم محمية وهي ليس طريق ورود ومن الصعب على العدو أن يدخلها، وهي محصنة بالنهر والصحراء. بالتالي تفرغوا لقيم الكرم والشهامة، أي القيم الإنسانية العامة. وهذه القيم تجدها في فن السيرة والمديح».
بلالك بلالك يالعشى الكنان..
وليك البيت ياوج.. الرحمن
الولد المنفل وراجح الميزان
يا ود الرجال اليقروا في القرعان..
قائمين في مسيدهم ويعبدوا الديان..
وهاجرين للمجالس أمات حجج وفتان..
ويمضي محجوب قائلاً: «إن شعر الجعليين أغلبه ينظمه الرجال، ولذا اتسم بالحماسة ونزع للحرب والتفاخر»:
نحن المابندي عطانا بنتفشربو..
نحن المابندي الزاد ونتحشربو..
ونحن الموت ندورو ويومي نتباشربو..
ونحن هنية الولد البنتعاشربو..
محجوب كرار مدهش، ليس بمعرفته العميقة بالتاريخ والجغرفيا فحسب، بل باهتمامه الذي يمتد لمصادر الإلهام عند الشايقيَّة، وبُعد نظره لجذور الشعر وفن الغناء عندهم، وامتداده في الحظارات القديمة من خلال تتبعه لإيقاعاتهم الغنائية. يقول محجوب: «إيقاعات الشايقيَّة موروثة من النوبة القديمة، فالشايقيَّة سواء أتوا من مكان آخر أو تدجَّنوا، فإن معظم ثقافتهم مأخوذة من النوبيين الأصليين أهل البلد، يعني لو سمعت إيقاع الدناقلة والسِكُّوت والمَحَس في أصولها تجدها تشبه إيقاع الشايقيَّة.. الشايقيَّة سريعين شويَّة، الطمبور بتاع المحس والدناقلة بطيء، سرعة الحركة عند الشايقيَّة جاءت نسبة لارتباطهم بتراثهم الشعري العربي». وقال إن الشايقيَّة أتوا بالرَّقص من النوبة القُدماء: «رقصة تنقسي إنما هي نوبيَّة الأصل». الشايقيَّة ساهموا في إحياء تراث النوبة وفتح الأبواب له بعد أن كاد يندثر.
هذا الاستعرض لكتاب “زاد المبدعين” إنما هو فاتحة شهيَّة، إذ لا غنى عن الاستمتاع بمطالعته. يقول سيد أحمد علي بلال، صاحب الكتاب، عن صديقه محجوب كرار: «كان عذب الكلام، قادراً على التواصُل مع مختلف الأعرق والثقافات والشرائح العمريَّة، تجده وسط رواد الأنداية يستمعهم والطنابرة يُشاركهم العزف ويصففق مع إيقاعاتهم، ويسافر مع “الروايس” في عرض البحر، ويشاركهم الغناء. كان منغمساً في الحياة الشعبيَّة، ملتصقاً بالبسطاء والمسحوقين، ملح الأرض». نعم، كان هو ذلك الرَّجُل وأكثر كما عرفناه، وأنا على ذلك من الشاهدين.
أيها المحجوب عنا في عليين بإذن الله، عليك السَّلام ألف سلام، وللأستاذ سيد أحمد وإلياس فتح الرحمن صاحب “المدارك” خالص الشكر، لإهدائهما لنا هذا السِّفر البديع.
Exit mobile version