رسالة من حكيم: نداء لإنهاء التبعية

فرانسيس مادينق دينق
الرؤية
بوصفي مُنتمياً إلى جيلٍ نجمه آخذ في الأفول، فإنّ دَوري يَكمن في تقديم النصح وإبداء المشورة، لا سيما أن مصدر الأفكار الأساسي لجيلنا رابضٌ في التجربة، وقد حظيتُ شخصياً بشرف خدمة بلدي – الذي أصبح بلدين الآن، السودان وجنوب السودان – في مناصب رفيعة داخل البلاد وفي الساحة الدبلوماسية في الخارج. وممّا له صلة أيضاً، تجربتي في مهمّتين من مهام الأمم المتحدة، إذ تقلَّدتُ منصبَي الممثل الخاص للأمين العام لشؤون النزوح الداخلي، ونائب الأمين العام ومستشار في قضايا منع الإبادة الجماعية، وهما مهمّتان أتاحتا لي فرصة التطواف حول العالم. في كلتا المهمتين، كانت بلادنا السودان، وبوجهٍ خاصٍّ جنوبها، وقارتنا الأفريقية، من بين الأشدّ تضرّراً. ولا بدّ أن أُقِرّ بدءاً أنني أعتزم الاتكاء بقوة على هذه الخبرات. ولكي يُسمع صوتُ حكيمٍ ما ويكون ذا أثر، يتعيَّن عليه أن يتحدَّث بصوت ملؤه الأمانة والمصداقية والنزاهة، دون خوفٍ أو مُحاباة، كما تقول العبارة المأثورة.
في حياتي الشخصية والعامة، دائماً ما كنت أسترشد بمجموعتين من المبادئ، أولاهما أنّ التشاؤم ينتهي إلى طريق مسدود؛ وعلى ذلك، ينبغي تجنّبه؛ أمّا التفاؤل، إذا ما استند إلى أسسٍ سليمة، فإنه تحدٍّ يحفز اتخاذ إجراءات تصحيحية. أمّا مجموعة المبادئ الثانية، فهي أن الأزمات، مهما كانت مؤلمة، تُقدِّمُ فُرصاً يمكن استثمارها والبناء عليها من أجل استكشاف وتنفيذ استراتيجيات تستجيب للتحديات التي تفرضها.
الفوضى العالميّة الناشئة
يَعيش العالم اليوم حالةً من الفوضى العالمية الناشئة، فالنظام الدولي القديم يتفكّك، في وقتٍ لم يتشكّل فيه نظام جديد بعد. وقد جاء إعلان الرئيس الأمريكي دونالد جي ترمب «أمريكا أولاً» مُدويّاً على المستوى العالمي، خاصةً وأن الولايات المتحدة كانت المانح الأساسي لكثيرٍ من الدول والمنظمات الدولية والإقليمية، بما في ذلك وكالات مساعدة إنسانية كبر
ى. يتضمّن هذا الإعلان تهديداً بانسحاب أمريكا أو تقليص التزاماتها الدولية، استناداً إلى ادعاءٍ مفادُه أنّ الدول والمنظمات الدولية تستغلّ الولايات المتحدة لمصلحتها. وعلى الرغم من وجود مصالح جيوسياسية مُتبادلة في علاقات أمريكا بشركائها الدوليين، ينبغي النظر إلى هذا التوجّه بوصفه ناقوسَ خطرٍ للدول التي تعتمد على الدعم الخارجي، يُحتِّم عليها الاعتراف بأن أزماتها نابعة في الأساس من الداخل، وتستدعي حلولاً محليةَ المنشأ.
وهذا جوهر مبدأ «السيادة بوصفها مسؤولية»، الذي طوّرْتُه وزملائي؛ ضمن برنامج الدراسات الأفريقية في معهد بروكينغز. وهو البرنامج الذي أسَّستُه وأدَرْتُه لاثنتي عشرة سنة. وقد أعادت اللجنة الدولية المعنية بالتدخّل وسيادة الدول صياغته في ما بعد؛ ليصير إلى المفهوم المعروف بـ«المسؤولية عن الحماية»، أو R2P/RtoP.
ثمّة ثلاث ركائز لهذه المسؤولية: مسؤولية الدولة عن حماية سكّانها؛ ومسؤولية المجتمع الدولي عن مساعدة الدول في حماية سكانها؛ ومسؤولية المجتمع الدولي عن الحماية عندما يتّضح جلياً فشل الدولة في حماية سكاّنها.
غير أن التركيز ينبغي أن يُولَى للركيزة الأولى، مسؤولية الدولة، بوصفها الأساس الذي تقوم عليه السيادة. لقد شكَّل مفهومُ «المسؤولية عن الحماية» الإطارَ المرجعيَّ الذي اعتمدتُ عليه في حواراتي مع الحكومات؛ أثناء اضطلاعي بمهامي الأممية بشأن قضايا النزوح الداخلي ومنع الإبادة الجماعية.
معضلات تحرُّر لم يتحقق!
منذ انطلاق موجة الاستقلال عن القوى الاستعمارية في خمسينيات القرن المنصرم، ظلّت البلدان الأفريقية معلّقةً في وضع هشّ، ما بين نَيل استقلالها وبقائها تحت مظلّة التبعية الفعلية لمُستعمِريها السابقين. وعلى الرغم من الجهود المُقدَّرة التي بُذلت خلال عقود من الزمن، ظلَّ التطلُّع الأفروعمومي الرامي إلى تحقيق الاعتماد على الذات والوحدة محضَ طموح. وقد كان السودان أول بلد أفريقي ينال استقلاله رسمياً في الأول من يناير 1956.
وفي ما يبدو، فإّن ثلاثاً من دول غرب أفريقيا – بوركينا فاسو، ومالي، والنيجر – تتلمّس خطاها نحو الصحوة الأفريقية؛ فقد أنشأت «تحالف دول الساحل» بهدف إنهاء الاعتماد على القوى الخارجية، وبناء اتحاد قائم على الاعتماد الذاتي، بسوقٍ مشتركة وعُملةٍ موحَّدة، وبنية تحتية إقليمية مُتكاملة.
هذه المغامرة الجريئة، وإن كانت تحوم حولها مخاطرُ وتحدياتٌ جسام، إلا أنها يحتمل أنّ تُقدِّم دروساً ذات نفع. والدرس الأساسي الذي يُمكن استخلاصه من هذه المغامرة، هو إعلاء قيمة الاعتماد على الذات، والسيطرة على الموارد القومية، وتعزيز التكامل والتعاون الإقليميَّيْن، فضلاً عن رصفِ الطريق نحو عهدٍ جديدٍ من تقرير مصيرٍ حقيقي، واستقلالٍ مُكتمل الملامح، وتحرُّرٍ من التبعية.
لا يَفوت على العالم، معرفةُ أن الدول الأفريقية حُبلَى بموارد طبيعية هائلة؛ كانت هي السبب الذي قاد – في المقام الأول – إلى التنافس الإمبريالي الأوروبي على القارّة. لم يكن الاستقلال يتطلَّع إلى تحرير القارّة من نير الاستعمار فحسب، بل أيضاً إلى استعادة ملكية الموارد واستغلالها الفعّال.
في خضمّ هذه الثروات الطبيعية، إنها لَلعنةٌ ما تفتأُ تضربِ نواحي القارة الأفريقية، بأنْ تبقى مُعدَمةً وعالةً على المعونات الخارجية، حتى في مجالات حيوية كالأمن الغذائي.
في الدول التي ترزح تحت وطأة النزاعات الداخلية، تُعاني فئات السكّان المُستضعَفة من انعدام الأمن الغذائي، نتيجة عجز سكّان الريف عن الزراعة، بسبب استشراء العنف وما ينجم عنه من انعدام الأمن. في المقابل، تغذي المساعدات الخارجية مزيداً من التبعية، وتقوّض الفخر والكرامة الوطنية.
لا سبيل إلى فصم عرى السلام والأمن والاستقرار والتنمية، فهي أولويات وجودية مترابطة. فضمان أمن المواطنين، وتشجيعهم ودعمهم في زراعة محاصيل غذائية تُلبّي احتياجاتهم المعيشية، وتوليد فوائض نقدية إثر ذلك، يُعَدُّ شرطاً أساسياً ليس لتنمية مجتمعاتهم ودولهم فقط؛ بل أيضاً لاستقرار حركة السكّان والحدِّ من التدفّق الجماعي صوب المدن والهجرة إلى الخارج.
مفارقات تحرير جنوب السودان
حين كنتُ أشغلُ منصبَ نائب الأمين العام ومستشار الأمم المتحدة بشأن قضايا منع الإبادة الجماعية، حظيتُ وزوجتي باستضافة الرئيس سلفاكير ميارديت، رئيس جنوب السودان المستقلّ حديثاً آنذاك، ووفده المرافق، أثناء مشاركتهم في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة. وعلى الرغم من أنّ الرئيس لم يكن في أفضل حالةٍ صحية، إلا أنه آلَ على نفسه وشرَّفنا بحضور مُناسبة العشاء. ولدى تقديم كلمتي الترحيبية، شدَّدتُ على نقطتين، أستعيدهما هنا لِمَا لهما من دلالةٍ على التحديات التي كنا ندرك جميعاً أنها كامنةٌ في الاستقلال الذي حقّقناه للتوّ.
أولاً، أكّدتُ ما كنّا نعلمه جميعاً، وهو أنّ استقلال جنوب السودان واجَه معارضةً شديدةً من قِبَلِ أصواتٍ نافذةٍ في محيطنا الأفريقي ومن قِبَل المجتمع الدولي، ممن كانوا يتهيَّبون من أن يصبح جنوب السودان دولةً فاشلة، ومهدّداً للسلم والأمن الدوليين والإقليميين. وكان لزاماً علينا أن نُفنِّد خطأ تلك المزاعم، من خلال عملنا اليومي. أما النقطة الثانية التي شدَّدتُ عليها، فهي أنّ بلدنا، المُنعَم بموارد طبيعية هائلة، يجب أن يعتمد على ذاته، ويُقلِّل اعتماده على المساعدات الخارجية التي كانت ضرورية إبان سنوات الكفاح.
وعندما عدتُ إلى مقعدي بجانب الرئيس، عبّر عن اتفاقه مع ما ذهبت إليه من رأي، وأكّد قطعاً أننا لن نكون دولةً فاشلة. ونظراً إلى حالته الصحية، طلب من وزير الخارجية، السيد نيال دينق، أن يُعلّق على كلمتي. وقد كان الوزير نيال راقياً في ردّه، مُؤكّداً ما قاله الرئيس، ومُبرِزاً أهمية أن نعتمد على ذاتنا مستقبلاً.
جليّة الأمر، أننا قد فشلنا في تحقيق طموحاتنا منذ الاستقلال، ويعود السبب الرئيس في ذلك إلى الحروب التي اندلعت عقب سنتين فقط من الاستقلال، وما لبثت أن تحوّلت إلى عنف مجتمعي ألحق دماراً بالغاً بالبلاد على الأصعدة كافة.
عملية السلام في مواجهة الحوار الوطني
عقب انتهاء ولايتِي في الأمم المتحدة، نلتُ شرف تعييني أول ممثل دائم لجنوب السودان لدى المنظمة الدولية. وكان المبدأ الذي وجّه مسيرتي الدبلوماسية دائماً، يتمثّل في أن السياسية الخارجية هي امتدادٌ للسياسة الداخلية، أي أنّ على الدبلوماسي أنّ يملك موارد محليةً إيجابية لترويجها دولياً لكسب الدعم والتعاون.
إلا أنّه سرعان ما تبيّن لي، في منصبي الجديد، أنّ هذا المبدأ كان أقرب إلى الطموح المثالي منه إلى واقعٍ يُمكن إدراكه، إذ كانت الحربُ بالأهلية التي اشتعل أوارها باكراً، تُمزّق أوصال البلد الوليد. وبعد انتهاء مهمّتي لدى الأمم المتحدة، كُلِّفتُ بعددٍ من المهام داخل البلاد، ارتبط معظمها بعمليَّتَيْن أساسيَّتَيْن: السلام، والحوار الوطني.
ولم يمضِ وقت طويل، حتى بات واضحاً أنّ كلتا العمليَّتَيْن تشوبهما أوجه قصور؛ تمثّلت في الشكوك المتبادلة والتجاذبات الحادّة وحالة من الغِلّ والبغضاء. وكانت هذه التوترات مرآةً تعكس الصراع بين التدخّلات الخارجية والمبادرات الداخلية. فقد رأت أطراف المعارضة، المُشارِكة في عملية السلام التي أطلقتها وموّلتها أطراف إقليمية ودولية، أنّ الحوار الوطني، الذي اضطلعت به الحكومة ومَوَّلَتْه بالكامل، ما هو إلا محض ذريعة اختلقها الرئيس لتلميع صورته السياسية.
في المقابل، رأى المشاركون في عملية الحوار الوطني، بوصفه مُبادرةً مطبوعةً محليّاً، أُتيحت فيها للناس فرصة التعبير الحرّ والشجاع عن آرائهم، من خلال مشاورات شعبية ومؤتمرات إقليمية، كان من المقرّر أن تُتوَّج بمؤتمر قومي؛ رأوا أن عملية السلام لا تعدو كونها تدخّلاً خارجياً ينحاز لمصلحة المُعارَضة.
وبما أنني كنتُ مُنخرطاً بعمق في كلا العمليَّتَيْن، فقد سعيتُ إلى تدعيم التكامل بينهما، مُستنداً إلى ما لدى كلِّ عملية من مزايا نسبية. وبينما كانت عملية السلام تتَّكئ على دعمٍ إقليمي ودولي، قد استمدّ الحوار الوطني شرعيّته من الداخل. ومع ذلك، قابَل الطرفان مساعيَّ بالشكّ والرفض، إذ رأى كلٌّ منهما أنني منحازٌ للطرف الآخر. ومن «المضحك المبكي» أنّ مصطلح «التكامل» أصبح كلمةً مسمومةً في نظر الطرفين.
وأثناء المداولات، باستثناء ما جرى بشأن الحوار الوطني الذي اتّسم بكونه مساراً مزدوج الاتجاه – من القاعدة إلى القمّة والعكس – عبر مشاورات علنية مفتوحة شملت مختلف أنحاء البلاد؛ فقد صعقني التركيز الذي أوْلَتْه عملية السلام لتقاسُم السلطة من قِبل الأطراف المُتحاربة، وما يتصل بها من ترتيبات أمنية تقتصر على المركز. وقد بدت هذه العملية مُنفصلةً عن المناطق الريفية التي ما فتئت غارقةً في موجات عنف داخلي وانعدام للأمن، وقادت إلى شلل الحياة الريفية، وعطّلت الإنتاج الزراعي، وقسَرت المواطنين على النزوح إلى المناطق الحضرية، وأبدلت الاعتماد الذاتي الذي يُميّز مجتمعاتنا التقليدية بحالة من الاتكال على المانحين الأجانب من أجل البقاء.
وفي نهاية المطاف، لم تَفِ اتفاقية السلام المُنشَّطة ولا الحوار الوطني بوعودهما كليةً. فقد ظلّت الاتفاقية، حتى في نظر أبرز الموقِّعين عليها، تعدُّ فَرْضاً خارجياً نُفِّذَ على مضض. أما عملية الحوار الوطني، الذي وثَّق مداولاته وتوصياته برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، بدعم سخيّ، في تقرير ضخم من خمس مجلدات، لم يُفْضِ سوى لتخفيف الضغط العام؛ ولم يكن في أفضل تقدير إلا إرثاً للأجيال القادمة. وفي الأثناء، ظلّت البلاد ترزح تحت وطأة انعدام الأمن وعدم الاستقرار والاضطراب الاجتماعي.
مفارقة الفقر المدقع في بلد الوفرة
جنوب السودان، بلدٌ غنيّ بالموارد الطبيعية، تتمدَّدُ في ربوعه أراضٍ زراعية شاسعة، وثروة حيوانية هائلة، وغاباتٌ مثقلةٌ بالفواكه والخضروات، وأنهار وبحيرات متخمةٌ بالأسماك، ووفرةٌ من الحياة البرية. مع كلّ هذا، يعاني جنوب السودان اليوم من فقر مدقع وانعدام الأمن الغذائي وجمود في التنمية. شعبٌ عُرف باستقلاليته الصلبة واعتماده على ذاته، ومواهبه الطبيعية، وكبريائه وكرامته، تضاءل على نحوٍ مُخزٍ إلى شعبٍ يعتمد على المعونات الخارجية، بما في ذلك مساعدات الغذاء.
وبصفتي عضواً في اللجنة المُشتركة لمُراقبة وتقييم اتفاقية السلام المُنشَّطة (R-JMEC)، التي تضمّ مسؤولين حكوميّين كباراً، ودبلوماسيين أجانبَ، وممثّلين عن منظمات دولية؛ صُدِمتُ حين سمعتُ قادتنا الوطنيين، من الحكومة والمعارضة، يطلبون المساعدة الدولية لمدّ جنودنا، في مناطق التجمّع، بالزي العسكري والغذاء. جهرتُ بالقول حينها: «عارٌ علينا!».
ولم أكتفِ بذلك، بل عاتبتُ قادتنا في الجانبين، وشركاءنا في المجتمع الدولي، بما في ذلك بعثة الأمم المتحدة المعنية بحفظ السلام في جنوب السودان (UNMISS)، على تركيزهم على الأمن والسلام في المركز؛ بينما تحترق الأرياف.
وفي اجتماع لقيادة الحزب الحاكم – الحركة الشعبية لتحرير السودان – دُعيتُ إليه، ألقى الرئيس سلفاكير ميارديت، بصفته رئيس الحزب، خطاباً مؤثراً ما زال صداه يرنّ في أذني. قال فيه: «عندما نلنا الاستقلال، كنا أمةً عزيزة؛ كنا نرفع رؤوسنا عالياً، وكنا موضع احترام. أما الآن، فلم نعد نعتزّ بأنفسنا؛ ولم نعد نحظى بالاحترام، ولم نعد نرفع رؤوسنا». ومن ثم طرح سؤالاً بلاغياً: «لماذا؟»، وهرع إلى الإجابة بنفسه قائلاً: «بسبب ما فعلته كِرِيت بنفسها»، وتابع: «لماذا فعلنا ذلك بشعبنا؟». ذهبتُ إليه عقب الاجتماع وقلت له: «السيد الرئيس، لقد أسرَني حديثك، وسأوظفه في حواراتي مع أطراف الحوار الدوليين».
أسباب العقوبات وعبثيتها
وفي وقتٍ لاحق، طلب مني الرئيس أن أتولّى رئاسة اللجنة الرئاسية الجديدة المعنية بالعقوبات (PACS). وفي اجتماعنا الاستراتيجي معه، أوضحتُ له أنني، مبدئياً، أعارض العقوبات؛ ومردّ ذلك إلى أنها نادراً ما تُحقّق أهدافها، وغالباً ما تطال الأبرياء من عامة الناس. لكنني بيّنتُ له في نفس الوقت أن العقوبات ما هي إلا نتيجة مزعومة لأخطاء داخلية.
وأشرت إلى ما قد تحدّث به الرئيس إلى قيادة حزبه الحاكم، بأننا ارتكبنا أخطاء يجب أن نقِرّ بها بصدق ونسعى لإصلاحها. واقترحتُ أن نستند، في خطتنا التنفيذية للجنة (PACS)، إلى نقده الذاتي هذا، وندير حواراً صريحاً مع شركائنا الدوليين بشأن تلك الأخطاء التي اعتُبرت مبرّراً لفرض العقوبات، وأن نتعاون معهم لمعالجتها. وقد صادق الرئيس على خطّتنا الاستراتيجية، وأعاد التأكيد على أنه يَتعيّن علينا أن نفتح صفحة جديدة، من خلال الاعتراف بأخطائنا، والالتزام بتصحيحها بالتعاون مع شركائنا الدوليين.
إنّ إنهاء الصراعات، وتحقيق سلام وأمن شاملَيْن، لا بدّ أن يكونا الركيزتين الأساسيتين لطيّ صفحة الماضي، وفتح الطريق أمام تنمية قائمة على الاعتماد على الذات وبناء الوطن.
تحدي الإدارة البناءة للتنوع
من خلال ولايتِي في الأمم المتحدة في قضايا النزوح الداخلي ومنع الإبادة الجماعية، لاحظتُ أن الصراعات المتصلة بالهوية تُمثّل تحدياً عالمياً، لا تكاد دولةٌ تنجو منه. لكن كما أشرتُ سابقاً، فإنّ قارّتنا – ولا سيّما بلادنا التي أصبحت بلدين – كانت من بين أكثر البلدان تأثراً بمثل هذه الصراعات. ومن الأهمية بمكان أن نوضح أنّ المشكلة لا تكمن في الاختلافات ذاتها، إنما في الطريقة التي ندير بها – أو بالأحرى، نسيء بها إدارة – هذه الاختلافات، على نحوٍ يولّد الصراعات. فسوء إدارة التنوع غالباً ما يؤدّي إلى تمييز مجموعاتٍ دون أخرى، وتهميشها وإقصائها من المشاركة. وعلى ذلك، فإنّ الوقاية من الصراعات المتجذّرة في الهوية ومعالجتها تقتضي ضمان الشمول والمساواة والكرامة للجميع، دون تمييز.
هذا هو المبدأ الذي اعتمدتُه في حواراتي البنَّاءة مع الحكومات. وكانت الدقائق الخمس الأولى في لقائي برئيس دولةٍ أو الوزير المعنيّ حاسمةً لإيصال رسالتي التي مفادها أنّ السيادة الوطنية يجب ألا تُفهم بوصفها محض جدار حصين في وجه التدخّل الخارجي، بل أن تُفهم إيجابياً باعتبارها مسؤولية الدولة في حماية ومساعدة المحتاجين من شعبها، مع الاستفادة من الدعم الدولي، إذا اقتضت الحاجة.
إنّ الوفاء بمسؤوليات السيادة الوطنية يُعدُّ في حدّ ذاته أفضل وسيلة لحماية السيادة نفسها. وقد لاقت الاستراتيجية، القائمة على الإدارة البنَّاءة للتنوّع، استحسان العديد من الحكومات. وهناك كثيرٌ من القواسم المُشتركة بين مبدأ الإدارة البنَّاءة للتنوّع وإطار الحركة الشعبية المنصوص عليه في رؤية السودان الجديد، التي نادت بالمساواة الكاملة ورفض أشكال التمييز على أساس العِرق أو الإثنية أو الدِّين أو الثقافة أو النوع الاجتماعي.
إنّ انفصال جنوب السودان هو نتيجة فشلنا في تحقيق تلك الرؤية. وإن كانت الرؤية تهدف أساساً إلى معالجة مظالم السودان القديم، إلا أنها تظلّ صالحةً اليوم كإطارٍ لإدارة التعدّد الإثني والقبَلي في جنوب السودان على نحوٍ بَنّاء.
وللمفارقة فقد أدّى الانفصال لتعميق الصراعات الداخلية، في السودان وجنوب السودان معاً. ويتبدّى هذا الأمر جليّاً في الحرب المدمِّرة في السودان، وفي الحروب المتعاقبة والتوترات المستمرّة في جنوب السودان عقب الاستقلال. ولا يمكن تجاوز هذه الصراعات على نحو مستدام إلا من خلال ترتيبات تقوم على منطق الربح للطرفين، لا غالب فيها ولا مغلوب.
السلطة سلطة شعب.. الخدمة خدمة شعب
ينبغي علينا أن نفعِّل النداء الأصليّ الذي أطلقته الحركة الشعبية، والمتمثّل في أن نستخدم عائدات نفطنا وقوداً لتحريك عجلة الزراعة، وأن ننقل المدن إلى الأرياف، ونبني شبكة طرق لربط المجتمعات والمناطق في أرجاء البلاد كافة. كما يجب أن تُنقل عمليات السلام إلى سكّان مجتمعاتنا في الأرياف، دون إغفال إمداد الخدمات الاجتماعية ومرافق الحياة التي تتركز في المدن إلى القرى.
ومن الضروري أيضاً أن تُفوَّض السلطات إلى المجتمعات المحلية، بما يُمكّنها من التمتّع بحقّ الإدارة الذاتية؛ بوصفها شكلاً من أشكال تقرير المصير الداخلي. وهذا ما يتطلّب تسخير الموارد البشرية والمادية لهذه المجتمعات، وتفعيل مؤسّساتها التقليدية، وقادتها الأهليين، ومنظمات المجتمع المدني؛ بما في ذلك الرجال والنساء والشباب، لتتضافر جهودهم جميعاً تعاوناً من أجل إحداث تنمية نابعة من الداخل، تُعزّز قدراتهم على النهوض الذاتي.
ويجب أن يُوضَع حُكّام الولايات ومديرو المقاطعات أمام مسؤولياتهم، بحيث يُربط استمرارهم في مناصبهم بتحقيق السلام والأمن والاستقرار والتنمية الذاتية في نطاق ولايتهم، خلال فترة زمنية مُحدّدة.
من شأن هذا النهج أن يُسهم في إيقاف نزف الهجرة من الأرياف إلى المدن بحثاً عن الأمن ولقمة العيش، لِنَضعَ حداً لتهاوي شعبنا في منحدر الفقر، ونُساعده على استعادة قدراته على الاكتفاء الذاتي، واسترداد ماضيه من الفخر والكرامة الأصيلة.
القول الفصل
تعالوا بنا نكرم اعتراف الرئيس سلفاكير ميارديت، بفشل جنوب السودان، بعد الاستقلال، في تحقيق رؤيته السامية للدولة. هيا بنا، لنرفع رؤوسنا من جديد، ولكن هذه المرة عن جدارة، لا عن غرور أجوف. ولنتأمّلْ كلمات قائد جنوب السودان الراحل دكتور جون قرنق دي مبيور، حينما قال إنّ تقرير المصير هو – بحكم تعريفه – ما تقوم به أنت نفسك لتحديد مصيرك، لا ما يُمنَح لك هبةً.
فلنَسْمُ فوق الخلافات، ولنضمّ أيدينا لنصوغ معاً مستقبلاً أفضل لشعبنا. ولنرسّخ السلام والوحدة والاستقرار لشعبٍ عانى آماداً في سبيل حرّيته. ولنوظّف مواردنا الطبيعية الهائلة لتعزيز نهج الاعتماد على الذات من أجل التنمية والازدهار، في عمليةٍ لتعزيز الذات من الداخل.
نقلا عن اتر



