د. عبد اللطيف البوني
مازلت اذكر تلك الجلسة في ستينات القرن الماضي… ونحن جلوس في منزل العم الصديق/الطيب الفيل… الذي تقلد فيما بعد منصبا قياديا في مشروع الجزيرة… وهو الآن معاشي يجتر ذكرى السرايات… هذا اذا لم يكن خرج من الشبكة… وكانت الأجواء انتخابية فدخل علينا جدنا حاج أحمد ود الفيل يتوكأ على عصاه … وبدون مقدمات قال لنا اسمعوا يا اولاد مافيكم زول يصوت لحزب الأنصار… ما تدوا ناس المهدي ديل اي صوت…انتبهت لكلام جدي رغم أنني كنت دون سن التصويت… فسالت ما الأمر؟ فاجابنا ابنه الاستاذ محمد زين رحمهما الله… بأن جدنا كان من الذين عانوا ويلات الدولة المهدية… وحكى لنا شي مما تعرضوا له… فقلت له الحكاية طولت شديد ليها اكتر من نصف قرن… فتوسع الاستاذ في الحكي وقال إن جهادية الخليفة عبد الله مارسوا بشطا وتكبرا وجبروتا لم يكن في خيال الناس ديل… عشان كده لن ينسوه ما حييوا..
زادت مداركي في هذا الموضوع من القراءة والاستماع والمقررات المدرسية… بحيث يمكن ان افرق بين الثورة المهدية والدولة المهدية… فالمهدية كثورة تنطبق عليها كل معايير الثورات… على حسب علم تشريح الثورات اتفقنا أو اختلفنا معها… اما الدولة المهدية على الاقل في جزء منها… كانت دولة باطشة ظالمة.. مارست عدوانا على مواطنين أبرياء عزل…
ولكن مهما كان تصوري المظلم للدولة المهدية… لم يصل إلى ما رايته بأم عيني وعشته في الجزيرة بعد غزو الدعم السريع لها في ١٨ ديسمبر ٢٠٢٣ في حرب السودان الحالية… التي بدأت في منتصف أبريل من ذات العام بالخرطوم.. كتبت مقالا طويلا بعد تحرير الجزيرة في فبراير ٢٠٢٥ وكتبت على ذلك المقال كتابات قام عليها كتابا كاملا… ومن عناوين ذلك المقال (الدخلت فينا ما بتمرق تاني ) و (وانا الان غيري) نفس ماحدث لجيل جدنا حاج أحمد ود الفيل..
في ذات المقال والذي وردت فيه أسماء كثيرة… كنت أصف كل من رحل منهم قبل يوم ١٥ أبريل ٢٠٢٣ بأنه سعيد… وبان ربنا بريده… لانه لم يمت مرتين إذ لم يشهد مالم يخطر ببال بشر.. وفي مقال لاحق عممت سعادة الرحيل على جيل الاباء من اهل الجزيرة الذين نشاوا في فترة ما بعد المهدية… وعاصروا النقلة الكبيرة التي حدثت بسبب قيام مشروع الجزيرة… ذلك العملاق الذي أقام الدنيا الدنيا لم يقعدها حتى اليوم… وبالمناسبة الجيل الذي عاش جزء من حياته قبل المشروع ثم عاش فترة ما بعد المشروع… يختلف تقييمه اختلافا جزريا للمشروع عننا… انهم يرونه جنة الله في الأرض… لان النقلة كانت كبيرة بالنسبة لهم… كانت من الاقتصاد المعيشي الكفائي الي النقدي الحديث… لم يكن في وسعهم ان يدركوا الاستنزاف الاستعماري الماكر… ولم يرون انه بالإمكان احسن مما كان.. وكان والدي عليه رحمة الله في جلسته الأخيرة يزعل ويحرد… اذا ذكرت أمامه الحواشة بسؤ ونبقى في الطريقة البترضيه… لقد كانت علاقته بها علاقة حب امضى فيه شبابه وكهولته وشيخوخته…
ومن مجايلي والدى عمنا ووالدنا الحاج علي الأمين الفكي… الذي رحل عن دنيانا الجمعة الماضية بقرية السديرة الغربية… بالقسم الشمالي الغربي من مشروع الجزيرة فسيرته ومسيرته تكاد تكون صورة طبق الأصل لوالدي حتى في الشبه كانا متقاربين … وقد حباني الله نعمة القرب من عمنا حاج علي ردحا من الزمن… فقد كان رحمة تتنزل على قبره مزارعا برنجيا (قدامي).. وتاجرا صادقا… تقيا ورعا… كريما… وسيما ابيضا.. كانوا ينادونه بحاج علي الأحمر للتفريق بينه وبين حاج اخر كان اسمرا.. كان مميزا حتى في حماره البربري العالي وسرجه الام درماني وهندامه الراقي…
لقد تم تسجيل عمنا حاج علي كمزارع منذ اول يوم وصل فيه المشروع منطقة السديرة… وكان ذلك في ثلاثينيات القرن الماضي ويومها كان صبيا.. ولما كان من الناس العاديين إذ لم يكن من بيت صوفي معروف ولا من بيت زعامة قبلية… أعطته الحواشة التي منحت له فرصة كبيرة للتميز والنجاح… والولوج الي عالم جديد أصبحت فية معايير الصفوية جديدة… فصعد الي مرتبة النخب.. فأصبح مقربا من المفتش الانجليزي لدرجة ان الناس كانوا يوسطونه ليمنحوا حواشات.. ومن يومها ظلت علاقته مع مكاتب التفتيش قوية الي ان اجلسه العمر .. كان صمدا والصمودية كانت منصبا للمميزين من المزارعين… يعني ذي نص مفتش… وكان يقود العمل العام في الحواشات والقرية… كان ديوانه مفتوحا للغاشي والماشي.. بيته يعج بالتلاميذ من القرى المجاوره.. كان في خدمة الموظفين العامين الذين يفدون للقرية للعمل بها….
جلس عمنا حاج علي قبل رحيله بحوالى عشرة سنوات… ولكنه ظل في كامل وعيه الي اخر دقيقة في حياته … مؤديا لكل صلواته تاليا لاذكاره… مواصلا في دعائه… كانت السبحة وقارورة العطر والابريق والتبروقة من مستلزماته الضرورية… وعندما هجم السريع على الجزيرة كان كلما حدثت هجمة على السديرة الغربية… هرع الجيران الي منزله للاحتماء به لان (جبارته قوية)… ولكن في نفس الوقت كان أهله والمحيطين به حريصين كل الحرص على عدم ابلاغه بالذي يحدث خارج منزله… خوفا عليه… لأنهم كانوا يعلمون انفعاله بالأحداث العامة ناهيك عن مثل ذلك العدوان… قال لي ابنه محمد انه قد لحظ في تلك الأيام الكالحة السواد ان الراحل كان يكثر من الدعاء للسودان وبصوت مرتفع (اللهم احفظ السودان… اللهم احفظ السودان) الي ان رحل…
لكل الذي تقدم كان ظننا في الله أن عمنا علي كان آخر السعداء لانه من الجيل الذي لم يشهد كتلة المهدية كما عاشها ابائه وكان من الذين شبوا مع مشروع الجزيرة حيث التغيير الكبير… وبتوفيق من الله تم عزله عن كتلة الدعامة كما حدث لكل المعاصرين … فذهب الي ربه راضيا مرضيا بعد أن أدى دوره في الحياة… وبما يرضى الله… فاللهم ارحمه واغفر له واجعل قبره روضة من رياض الجنة.. واجعل البركة في عقبه وارحمنا اذا ما صرنا إلى ما صار اليه…
