حكاية داؤود بولاد… مزامير داؤود في الحارة التاسعة

عبدالمحمود الكرنكي

(1)

دورة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم 74/1975م، برئاسة داؤود يحيى بولاد امتدت من ديسمبر 1974م حتى أغسطس 1977م. حدث ذلك بسبب انقلاب عسكري مفاجئ في 5/ سبتمبر 1975م، قاده المقدَّم حسن حسين عثمان. وفشل الإنقلاب وسعى الرئيس نميري لاستغلال حادثة الإنقلاب لتعطيل العمل السياسي في جامعة الخرطوم، وفرض تنظيم (الإتحاد الإشتراكي السوداني) .

فكان أن أرسِلت وحدات الجيش في 8/ سبتمبر 1975م لمحاصرة جامعة الخرطوم، وإلقاء القبض على الطلاب الناشطين في تنظيم الحركة الإسلامية.
وحوصرت الجامعة وتمَّ تفتيش داخليات الطلاب غرفة غرفة.

وتم إلقاء القبض على عدد زاد على السبعين من الناشطين وأعضاء الإتحاد.

كان من المعتقلين أمين حسن عمر وبابكر حنين وعبد الحليم الترابي وقائمة طويلة من كوادر الإسلاميين الطلابيَّة الناشطة.

وأصبحت بقية أعضاء الإتحاد تطاردهم أجهزة الأمن المايوية لمدة عامين.

وصدر قرار جمهوري من الرئيس نميري بفصل أعضاء الإتحاد من الجامعة لمدة عامين.

وأعان الرئيس نميري في مهمَّته عددٌ من الدكاترة مثل البروفيسور عبد الله أحمد عبد الله الذي أعانه باعتدال، والدكتور محمد الفاتح (كلية القانون) والذي لم يكن مايويّاً منظَّمًا، إلا أنه قد تجلَّى في خدمة الإشتراكي، وكان (اتحاد إشتراكي) أكثر من الإتحاد الإشتراكي

، وكان هناك أيضًا من أعوان نظام الرئيس جعفر نميري. الدكتور التجاني حسن الأمين الذي كان كادر اتحاد اشتراكي حينها.

وألقى الرئيس نميري في 8/ سبتمبر 1975م خطاباً نقلته الإذاعة السودانية، قال فيه إنهم عثروا في داخليات البركس على (دولارات) أرسلتها المعارضة من بيروت لاتحاد الطلاب بالجامعة للقيام بعمل سياسي ضد الرئيس نميري.

بالطبع كان كلّ ذلك كذب. ذلك بينما بالتأكيد أن أعضاء اتحاد الطلاب في سبتمبر 1975م، لم يكونوا حتَّى قد شاهدوا عملة الدولار بأعينهم، أو لمسوها بأيديهم، فضلاً عن التعامل بها، أو قبضها ثمناً لأعمال سياسية مأجورة!.

في أعقاب إنقلاب حسن حسين أصبح داؤود بولاد رئيس الإتحاد مطارداً مطلوب القبض، وكذلك حال أعضاء الإتحاد.

خلال فترة المطاردة اختفى داؤود في منزل في الحارة التاسعة بمدينة الثورة بأم درمان.

هناك لأول مرة إستمعت لداؤود بولاد وهو يتلو القرآن على انفراد.

كان داؤود عندما يتلو كأنه يغرِّد. كان بعد صلاة الصبّح يتلو القرآن بصوت جميل فريد في جماله كأنه التغريد. وليست هذه مبالغة، إذ يمكنك الإستماع إلى مزامير داؤود لأي زمن مهما طال وأنت منجذب إلى تلاوته الطليَّة بدون ملل.

داؤود بولاد من المسبَّعات، وهم ذوو مكانة تنتمي إلى أصول مُلكٍ عريق

بعد صلاة الفجر كان داؤود بولاد يجلس تاليًا وذاكرًا في سجادة الصلاة إلى طلوع الشمس وما بعد الطلوع.

كان داؤود بولاد ضمن مجموعة أعضاء الإتحاد المطلوب القبض عليهم. حيث تختفي تلك المجموعة في منزل بالحارة التاسعة بمدينة الثورة. بقية المجموعات كانت تتوزع في الصحافة جبرة (التجاني عبد القادر وسيد الخطيب) وعلي كرتي بمنزل المستشار بالنائب العام إبراهيم عبد القادر في (برِّي الشريف)

، ومجموعة تختفي في منزل بحلفاية الملوك (فضل السيد أبو قصيصة (الشهيد) وسراج الدين حامد (السفير) وبدر الدين الجعلي (المهندس. رجل الأعمال)، وانضمَّ إليهم المعتصم عبد الرحيم الحسن (وزير التربية والتعليم بولاية الخرطوم) بعد أن كان يقيم متخفياً في منزل المهندس (فؤاد) في (امتداد الدرجة الثالثة)

، ومجموعة كانت تقيم متخفية في الجريف غرب في منزل شيخ ادريس عمر بركات (عبد الفضيل إبراهيم الشهيد وكاتب هذه السطور).

كان عثمان النصري يقيم متخفيّاً في منزل أقاربه بــ (بيت المال) بأم درمان وهو منزل عائلة المذيع الشهير الراحل الدكتور أبو بكر عوض (أبو بكر عوض ابن عمَّة عثمان النصري).

كان لاتحاد الطلاب إذاعة يصل مداها حتى (سوبا)، وكان ينقلها في سيارته مصطفى نواري (د. مصطفى عمر نواري المحاضر بكليَّة الهندسة جامعة الخرطوم والجامعات البريطانية. مدير الطيران المدني).

كانت تلك واحدة من ملاحم الحركة الإسلامية ضد الديكتاتورية العسكرية. واحداً من ملامحها من أجل الديمقراطية والحريات العامة.

الذين لا يعرفون ذلك الجيل من المناضلين الطلابيين، يخطئون كثيراً حيت يصفونهم بغير ذلك، أو حين يحاولون سجنهم في قوالب عبادة الفرد والحزب الشمولي.

كان داؤود بولاد قيادياً طلابياً بارزاً صلباً ضد التسلط والديكتاتورية والظلم، تشهد له سنين نضاله ومطارداته، ويشهد له جيل كامل من الإسلاميين من الحركة الطلابية السودانية.

بعد عام من النضال السياسي بالمنشورات والإذعة والمظاهرات التي تُحاصر داخل الجامعة، قرَّر تنظيم الإخوان المسلمين أن يخرج أعضاء اتحاد طلاب جامعة الخرطوم من السودان لتكملة دراستهم في الخارج. الخارج هي بريطانيا.

أبلغ الأستاذ علي عثمان محمد طه ذلك القرار إلى أعضاء الإتحاد من المطاردين الذين لم يقبض عليهم.

فبدأوا في الخروج في مجموعات من السودان. فخرجت مجموعة بالقطار عن طريق الخرطوم إلى عطبرة ثمَّ بالقطار إلى بورتسودان ثمَّ خرجوا عبر (سودانير) ضمن أفواج الحجيج إلى الأراضي المقدسة.

كان أفراد هذه المجموعة التي وصلت عطبرة هم الطيب إبراهيم (د. الطيب إبراهيم محمد خير الوزير) ومحمد البشير عبد الهادي (د. محمد البشير) والطاهر علي الطاهر (مدير شركة النصر) وكاتب هذه السطور.

في عطبرة تعرَّفت المجموعة على الشيخ الوقور (حسين بابكر) التاجر بسوق كسلا، ووالد الفريق يحيى حسين. والدكتور هاشم حسين.

الشيخ حسين بابكر من أقطاب حركة الإخوان المسلمين. أيضًا تعرَّفت المجموعة في عطبرة على السيد/ مصطفى أحمد الطيب وهو كادر مميَّز في الحركة الإسلامية.

في عطبرة نزلت المجموعة ضيوفًا على (الشيخ سيد أحمد) مدير بنك السودان السابق والذي كان يشغل منصبًا بارزًا في السكة حديد.

الشيخ سيد أحمد باقة من اللطف والظرف والكرم واللباقة والذكاء.

كان مايكرفون سودانير ينادي أسماء الحجاج المغادرين (عبد الله علي سعيد) فيخرج الطاهر علي الطاهر،
(علي الشيخ الطيب) فيخرج (كاتب هذه السطور)، وذلك إلى بقية الأسماء.

ثمَّ خرجت مجموعة من بورتسودان بالباخرة إلى مدينة (جدّة)، وهم سيِّد عمر كمبال (رجل أعمال يقيم في لندن) ومحمد يوسف علي يوسف (د. محمد يوسف الأمين العام لديون الزكاة) وبدر الدين أحمد الجعلي (مهندس معماري. رجل أعمال).

قبل الذهاب إلى مطار بورتسودان كانت المجموعة التي ستسافر عبر (سودانير) قد أقامت بفندق متواضع بالمدينة اسمه فندق البحر الأحمر. وإلى حين ميعاد السفر بالطائرة خارج السودان، أصبحت مجموعة الأربعة تقف على سطح الفندق وترقب الأماكن التي حوله ومنها المنطقة الصناعية التي كانت قريبة من الفندق. الفندق كان (نصف نجمة). كان أعضاء مجموعة الأربعة يتبادلون الإمارة. في لحظة مغادرة الفندق إلى المطار، كانت إمارة الطيب إبراهيم محمد خير (د. الطيب الوزير)، حيث طلب من المجموعة قراءة الآية الكريمة (والله من ورائهم محيط)، حتى لا يقبض جهاز الأمن على المجموعة أو واحد منها. ودّعنا بعضنا وذهبنا إلى المطار، وقد تآخت على الله أرواحنا إخاءً يروع بناء الزمن وباتت فدى الحق آجالنا بتوجيه مرشدنا المؤتمن!.

Exit mobile version