عانت البشرية على مر العصور من ويلات الحرب، وغيرها من صور النزاعات المسلحة ولم تتوقف تلك المعاناة عند حدود الإضرار بالإنسان وممتلكاته الشخصية، بل امتدت إلى الآثار والتراث الإنساني الذي يعتبر جزءً لا يتجزأ من ذاكرة الأمة وتأريخها الثقافي، وفي أحيان كثيرة عمد الاستعمار والمعتدين إلى الاعتداء على الآثار لخصومهم، بغية طمس معالم حضارتهم، والعمل على تخلفهم، خاصة بعد تفاقم ظاهرة الحروب وما ينجم عنها من اعتداءات على الآثار باعتبار هذه الأخيرة تشكل جريمة حرب في حق الإنسانية وأمام خطورة هذا الوضع قام المجتمع الدولي بوضع آليات وميكانيزمات تهدف إلى ضمان حماية الآثار والمواقع الأثرية، سواء كان ذلك عن طريق عقد اتفاقيات دولية أو أجهزة تعنى بحماية هذه الآثار من خلال الحد من الاعتداءات التي تطال بالآثار أثناء النزاعات المسلحة، وأن يفرض التزامات الاحترام و الحماية على أطراف النزاع ولم تعد الحماية التقليدية للقانون الدولي الإنساني.
خير مثال لذلك الاعتداءات التي قامت بها المليشيا، وسعيها الممنهج لتدمير التراث الثقافي في السودان وطمس معالمه، والذي شمل تخريب متحف السودان القومي، ودار الوثائق القومية، وعدد من الجامعات والمكتبات العامة، وأماكن العبادة التاريخية، الكنيسة الإنجيلية بمدينة ود مدني، وختمت المليشيا هجماتها علي الموقع الأثري المعروف “النقعة والمصورات” الذي يقع شمال الخرطوم، في ولاية نهر النيل، التي تعد من أبرز المواقع الأثرية التي يعود تأريخها إلى حوالي 3 آلاف سنة وهي ضمن قائمة التراث الإنساني منذ عام2011م.
وواقع الحال يجعلنا نتساءل لماذا تستهدف المليشيا تاريخ وهوية وتراث السودان، هل تريد مسح آثار الماضي وتغييبه، بحيث يمكن كتابة تاريخ جديد؟ لا بد أن ندين هذا الفعل باعتبار أن تدمير مواقع ثقافية وتاريخية “جريمة حرب”، وفق معاهدة لاهاي لعام 1954. وهي أول معاهدة متعددة الأطراف وأكثرها شمولاً مخصصة حصريًا لحماية التراث الثقافي في أوقات السلم وكذلك أثناء النزاعات المسلحة.
لا بد للقائمين على الأمر أن يدركوا ما نحن مقبلون عليه من دمار للتأريخ والحضارة ويحافظوا على ما تبقى، لأن هذه بداية لتدمير هوية مجتمع بأسره.