حبر الجرح…إسرائيل من “شعب متهم بقتل المسيح” إلى حليف استراتيجي

بقلم: عبدالعزيز يعقوب

في نهاية القرن التاسع عشر، وبين أروقة العواصم الأوروبية المتخمة بالخوف من الاضطرابات والتغيير، جلس رجل يهودي أنيق، علمانيّ المزاج، يحمل قلماً لا مدفعاً، ويخطّ مشروعًا سيغيّر ملامح الشرق الأوسط. لم يكن “ثيودور هرتزل” نبيًّا أو رجل دين، بل كاتبًا نمساويًا يحترف السياسة بالأفكار، لا بالعقائد. لكنه نجح، وببراعة، في تحويل الحلم القومي اليهودي إلى برنامج سياسي معلَن، حين دعا إلى إنشاء وطن لليهود في فلسطين. لا بوحي من التوراة، بل بوحي من العداء والعزل الأوروبي لليهود.

هكذا وُلدت الحركة الصهيونية السياسية، رسميًا، في مؤتمر بازل بسويسرا عام 1897، وصهيون اسم لجبل في فلسطين ذُكر في التوراة وأصبح رمزًا للحلم اليهودي بإقامة وطن. اجتمع قرابة مئتي مندوب يهودي ليعلنوا عن كيان تنظيمي له هدف واضح “إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين”. لم يكن الدين هو ما يحركهم، بل العزل والاضطهاد والخوف من البقاء في مجتمعات أوروبية تكنّ لهم كراهية دفينة، وتدفعهم نحو العزلة والشتات مرةً بعد أخرى.

لكن الأكثر إثارة في هذا التحوّل لم يكن جرأة الفكرة وحدها، بل الجهة التي ستتبنّاها لاحقًا. فمن ذا كان يظن أن المسيحية، التي لاحقت اليهود لأكثر من ألف عام بتهمة “قتل المسيح عليه السلام”، ستصبح يومًا الحاضنة السياسية لحلمهم القومي؟ لقد تحوّل التاريخ من سردية الاتهام والتشريد والاضطهاد، إلى خطاب الشراكة والدعم والحماية. فمن الطرد الجماعي من إنجلترا في 1290م، حين أصدر الملك إدوارد الأول قرارًا يقضي بإخراج اليهود من البلاد ومصادرة ممتلكاتهم، إلى طردهم من إسبانيا عام 1492م، وصولًا إلى وعد بلفور في 1917م الذي منحهم اعترافًا بريطانيًا رسميًا بوطن قومي في فلسطين، تمتد بين اللحظات قصة مذهلة من التحوّل والانتهازية.

بعد طردهم من بريطانيا، عاش اليهود في عزلة لأكثر من ثلاثة قرون، حتى جاءت لحظة التحوّل على يد أوليفر كرومويل في القرن السابع عشر، حين سمح بعودتهم، لا بدافع التعاطف، بل لحسابات اقتصادية ولاهوتية بروتستانتية. فقد بدأت تظهر في إنجلترا تفسيرات جديدة للعهد القديم، تقول إن “عودة اليهود إلى صهيون” ضرورية لتهيئة الأرض للمجيء الثاني للمسيح. ومن هنا وُلدت ما يُعرف لاحقًا بـ”الصهيونية المسيحية”، التي وإن لم تحب اليهود كأفراد، إلا أنها قدّستهم كأداة نبوية في خطة إلهية أكبر.

وتعاظم هذا الاتجاه في القرنين التاسع عشر والعشرين، خصوصًا مع تمدد الإمبراطوريات الأوروبية، التي وجدت في المشروع الصهيوني وسيلة استراتيجية لتثبيت نفوذها في الشرق الأوسط. وهكذا، التقت الرؤية اللاهوتية مع الحاجة الاستعمارية للبترول، وخرج وعد بلفور من رحم هذه المصالح المتشابكة. بريطانيا، التي طردت اليهود ذات يوم، باتت تكفُلهم اليوم بحماية وطن لم يكن ملكًا لها، لكنها وعدت به من موقع القوة والسطوة والجبروت.

أما في الولايات المتحدة، فقد وجدت الصهيونية المسيحية بيئة خصبة في قلب التيار الإنجيلي (Evangelicals)، الذي يرى أن دعم إسرائيل ليس فقط قرارًا سياسيًا، بل فريضة دينية. ومع صعود هذا التيار إلى المشهد السياسي، خاصة في الحزب الجمهوري، أصبح الدفاع عن إسرائيل جزءًا من العقيدة السياسية الأميركية. لقد تحوّل “الشعب قاتل المسيح” ـ برغم أنهم ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ـ إلى “شعب الله المختار”، لا لأنهم غيّروا سلوكهم، بل لأن دورهم في الرواية تغيّر.

وهكذا، فإن ما بدأ كعداء لاهوتي عميق في قلب المسيحية الأوروبية، تحوّل، مع الزمن وتبدّل المصالح، إلى مشروع سياسي عقائدي يرعاه الغرب ويمنحه الغطاء الأخلاقي والديني. من قوانين التمييز العنصري والطرد في العصور الوسطى، إلى الوعد في القرن العشرين، كانت الوظيفة السياسية لليهود، أكثر من حقيقتهم الدينية أو الثقافية، هي التي تحكمت في طبيعة العلاقة بين الغرب المسيحي والوجود اليهودي. ومن هذه العلاقة المركّبة وُلدت إسرائيل، لا بوصفها خلاصة لحق ديني، بل كذروة لتحالف نفعي متبادل بين فكرة “الخلود والملك” وأطماع النفوذ الإمبراطوري.

لكن ما لم تحسبه نبوءات البروتستانت ولا خرائط المصالح الإمبراطورية، هو أن الأرض ليست بيضاء فارغة، ولا التاريخ قصاصة بيد الغالبين يعيدون كتابته كما يشاؤون. في فلسطين، لم تكن “أرض الميعاد” تنتظر من يقتحمها بوعدٍ غريب، بل كانت تنبض بحياة شعوب وذاكرة وأنبياء آخرين. هكذا لم يكن قيام إسرائيل نهاية قصة، بل بداية نزيف طويل لم يتوقف.

لقد أنجبت العلاقة بين المسيحية الغربية والصهيونية كيانًا على أنقاض وطن، ومنحت له غطاء من النبوءة والحماية، بينما تُرك الشعب الفلسطيني في العراء، يصوغ ذاكرته من نكبةٍ إلى أخرى، ومن مجزرة إلى أخرى، ويحمل حُلمه على ظهر المنفى والعالم يشاهد وذاكرة التاريخ تدون.

في هذا المشهد العجيب، تتبدّى الحقيقة القاسية: أن التحالفات لا تُبنى دومًا على المحبة أو المبدأ، بل على الوظيفة والدور. وأنّ من رُفض بالأمس لأسباب دينية، قد يُستدعى اليوم ليلعب دورًا جديدًا، في مسرح نتن للسياسة والمصالح لم يُستشر فيه سكانه الأصليون ولا أهل الديانة اليهودية الحقة.

وما بين الطرد في إنجلترا القديمة والوعد في لندن الإمبراطورية، امتدّ خط مستقيم من العداء إلى الرعاية. أما فلسطين، فبقيت كالسيف في خاصرة أعدائها، عصيّةً على النصوص المشوهة، تكتب تاريخها في حصار الجوع بدماء الأطفال والنساء والعجزة، وتخطّه في صخر الأرض وفي ذاكرة الشعوب الحرة، وتقرأ النبوءات بحبر الجرح الأحمر. تقاوم تحويل أرضها إلى مسرح عقائدي لصراعات لم تكن طرفًا فيها، وتعيد للعالم الدرس الأقدم أن الحق لا يموت ما دام له أصحاب، وأن الأرض التي تُروى بالدم، لا تُباع ولا تُوهب، بل تنتظر يوم عدالة آتٍ لا محالة.

فيمضي قدر الله في عليائه، لا يحجبه بطش جائر ولا كيد متربص، إذ ﴿والله غالب على أمره ولو كره الظالمون﴾.

Exit mobile version