جيشنا: أربعة الف عام من المجد

علي عسكوري
ذكرنا في مقال سابق ارتباط تاريخ الجيوش منذ نشاتها بالدفاع عن الارض كمهمتها الاساسية او التوسع لكسب ارض جديدة متى ما اشتد ساعدها وكبرت الاطماع (الاستعمار او الامبراطوريات) كمهمة ثانية. ذكرنا ايضا ان هذه المهمة (الدفاع عن الارض) او المفهوم مستمر حتى اليوم، حيث تبقي قضية الدفاع عن الارض هي الاولوية القصوى لاى جيش.
ذكرنا ايضا ان الفيلسوف الفرنسي (جان جاك روسو) اشار الى ان قضية ملكية الارض – التى قادت فيما بعد لتكوين المليشيات ثم الجيوش- بدأت بعد اكتشاف الزراعة واستقرار الانسان حيث اصبح بإمكان الانسان انتاج قوته بصورة دائمة. تلى ذلك ان قام احد الناس (الله لا كسبه) بتسوير قطعة ارض وقال انها ملك له وحده او انه وحده المالك لها دون الاخرين، ومن يومها دخلت البشرية في جحر ضب خرب ونشأ ما يعرف بالصراع على الموارد الى يوم الناس هذا!
بالطبع، لا احد يعرف ذلك الشخص و متى فعل ذلك لأن ذلك تاريخ قديم جدا. حدث ذلك بعد ان كانت الارض مشاعة يزرع كل انسان او مجموعة حيث شاؤوا يتنقلون من ارض لارض حسب ما اتفق دون ادعاء بملكية الارض التى يزرعونها، لكن الخطوة التى اعلنها ذلك الرجل فتحت قريحة البشر على ان الارض يمكن ليس فقط استغلالها، بل امتلاكها (ومن ديك وعيك) كما يقال! اذ لم يكن البشر قبل ذلك يعلمون ان الأرض يمكن امتلاكها ايضا..!
سريعا، اكتشف ذلك الشخص (الكارثة) انه مضطر للدفاع عن تلك الارض التى اعلن انها ملكه، امام اطماع الافراد والجماعات الاخري فاستنهض افراد اسرته، ثم تبعته مجموعته للدفاع عن الارض التى تملكتها هي بدورها وصارت تزرع فيها قوتها، فتطورت قضية الدفاع عن الارض من افراد الاسرة الواحدة الى مليشيا المجموعة التى كان واجبها الدفاع عن الارض والغلال التى تنتجها(صراع البقاء)!
ظل امر المليشيات هكذا الى ان جاء الامبراطور (سرجون الاكدى) في القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد في الامبراطورية الاكدية في بلاد الرافدين، فأسس اول جيش نظامى محترف تدفع له الدولة مخصصاته.
ثم جاءت الامبراطورية الفارسية الاخمينية في القرن السادس قبل الميلاد فاسست جيشا محترفا من النخبة يشابه تكوينه الجيوش الحديثة.
في اوروبا يعتبر الاسكندر الاكبر في القرن الرابع قبل الميلاد اول من اسس جيش نظامى محترف. الاسكندر الاكبر هو مبتدع فكرة دمج المليشيات القبلية في جيش نظامى موحد بقيادة واحدة، ولذلك ما نقوله اليوم عن ضرورة دمج المليشيات فعله الاسكندر الاكبر في القرن الرابع قبل الميلاد حيث انتهي الى اهمية وجود جيش منظم بقيادة واحدة، وقد صدق نابليون في مقولته ” لا جديد تحت الشمس”!
ثم جاء الدور على الامبراطورية الرومانية التى كونت جيشا عرمرم بمرتبات ثابتة وبمعاشات بعد الخدمة مكنها من بناء امبراطورية واسعة.
بعد ان غرقت اوروبا في قرونها المظلمة – والاوروبيون – بالمناسبة- هم الشعوب الوحيدة دون شعوب الارض الذين دخلوا في قرون مظلمة باعترافهم، ويحتاج الانسان ليطلع على تفاصيل حياتهم في تلك الازمنة حتى يعلم من اى قاع سحيق مظلم خرج القوم، وهو خروج دموي وعنيف جدا اثر على كامل تاريخ الانسانية- اصبح تكوين الجيوش يعتمد على الاقطاعيين من ملاك الارض الذين يستجيبون لطلب الملك بارسال مقاتلين. وقتها كانت الجيوش تتبع للملك وتعرف بجيش الملك، و لم تعرف اوروبا الجيوش الوطنية الا في القرن السابع عشر، فانتقل الجيش من جيش مهمته الدفاع عن الملك والاقطاعيين الى جيش وطني يدافع عن الوطن مفتوح لجميع ابناء الشعب وليس من يختارهم الاقطاعيون!
وبينما تأخرت اوروبا في تطوير مفاهيمها للجيش حينما كانت تعمس في قرونها المظلمة، نذكر ان المسلمين عرفوا الجيوش النظامية المحترفة منذ ايام الخلافة الراشدة، اى قبل ان تدخل اوروبا عصورها المظلمة بقرون واستمر ذلك الارث عندهم، حتى بعد ان دمر التتار بغداد ونشأت دويلات كثيرة في العالم الاسلامى لها جيوشها النظامية. حينها، كانت اوروبا تنحط قرن بعد قرن حتى دخلت قرونها المظلمة، ثم خرجوا علينا بعد عشرة قرون ليقولوا لنا انهم اول من اسس الجيوش النظامية في ادعاء هش لا يقوم على حقيقة تاريخية. لذلك ظللت اقول دائما ان الاوربيون ليس لهم مساهمة خاصة بهم في الارث الانساني خاصة بهم فحتى اثينا سرقت حضارتها من بلاد الرافدين ومن حضارات وادى النيل. كل ما قام به الاوروبيون هو انهم اخذوا ما عند الآخرين خاصة المسلمين، واعادوا طلائه وباعوه لهم، they are outstanding in re- packaging and marketing.
ومع اخذ هذه الحقيقة في الاعتبار تجدنى اختلف مع من يقولون ان الجيش السودانى اسسه البريطانيون! فنحن نعلم ان اسلافنا كان لهم جيش ضخم في عصور ماضية حين لم تكن اوروبا في الكتاب شيئا مذكورا. نعلم ان الممالك الكوشية تمكنت من تكوين جيش ضخم احتلت به مصر ووصل جيشها بقيادة الملك (تهارقا) القدس عندما استنجد به الملك (حزقيا) لمساعدته في صد غزو الاشوريين لاورشليم في القرن الثامن قبل الميلاد. حكمت مملكة كوش بفضل جيشها مصر و تلك المناطق في الشام لمائة عام ونيف.
لم يكن ذلك جيش من المرتزقة، بل كانوا سودانيون محاربين شرسين اخضعوا مصر الفرعونية وهي في اوجها. ذلك هو تاريخ جيشنا واؤلئك هم اسلافنا، شربوا من ذات النيل ومشوا على ذات الارض وتبختروا فوقها كما يتبختر ابطالنا هذه الايام..!
حسنا فعل الرئيس برهان بالاحتفال بعيد الجيش في منطقة المصورات، تلك لفتة بارعة تربط ماضينا التليد بحاضرنا وتعكس فهما عميقا للتاريخ وارتباط حلقاته، فجيشنا الحالى هو سليل مجد تليد باذخ!
من المؤسف اننا نسقط تاريخنا التالد ونقتصر تاريخ بطولات جيشنا على الفترة الاستعمارية وما بعدها. فجيشنا قديم وشعبنا قديم وتاريخنا تالد كما اننا – طوال تاريخنا- لم ندخل عصورا مظلمة!
لقد كنا على الدوام امة مستنيرة لم يعرف الظلام اليها سبيلا! في حقيقة الامر عمر الجيش السودانى آلاف السنيين وليس ٧١ عاما فقط. لقد كان لنا جيش حارب الرومان وصداهم على اعقابهم وكانوا في اوج منعتهم وفشلوا في استعمار بلادنا! مالنا نسقط تلك البطولات من تاريخنا ونقتصر تاريخنا على سبعة عقود لنبدوا وكاننا امة وليدة بلا تاريخ!!
لقد آن الاوان لتصحيح التاريخ، فجيشنا يناهز جيش الرومان والفراعنة تاريخيا، وعلينا ان نتذكر أننا من اقدم جيوش الارض ولا فخر!
في التاريخ الحديث صمد اسلافنا وقاموا غزو العرب المسلمين وصدوهم وهم في اوج صعودهم مما نتج عنه ان يتبع المسلمون نشر الاسلام بطرق سلمية خلافا لكثير من الشعوب التى هزمها المسلمون واخضوعها! لكل ذلك نحن امة لا تنكسر ولا تقبل الذل والهوان تقاتل بأضافرها واسنانها حماية لشرفها وسيادتها، ذلك هو تاريخ جيشنا منذ القدم، وما نراه من تضحيات عظيمة اليوم ما هو الا شعاع وومضة من غياهب التاريخ لتذكرنا ببطولات اسلافنا. لذلك فالربط بين تضحيات اليوم وبطولات الماضي ومجده امر في غاية الاهمية. ما تقوله للعالم كل هذه التضحيات هو:” نحن احفاد الملوك والابطال لا ننكسر ولا نزل مهما تكاثرت علينا النوازل، جذورنا ضاربة في الارض وارثنا تالد”!
نعلم ان من اهم آليات الاستعمار المستترة هى استلاب عقول الشعوب والايحاء الضمنى ان تاريخها قد بدا معه! فالزعم الحالي بأن السودانيين تعلموا الجندية من البريطانيين، زعم باطل يكذبه تاريخنا، لقد ورث السودانيون الجندية من اسلافهم من واقع تاريخ تالد يمتد لاكثر من اربعة الف سنة قبل تأسيس الجهورية الرومانية التى سبقت الامبراطورية الرومانية! لقد طالت اكتاف جنودنا اكتاف جنود تلك الامبراطوريات وتفوق جنودنا عليهم شجاعة ومهابة وقامة، ذلك هو تاريخنا…. لماذا نتجاهله!
ان اختصار تاريخنا على سبعة عقود فيه ظلم مؤلم وقاس لانفسنا ولاسلافنا الذين رفعوا رأيات بلادنا خفاقة كأمة يحسب لها حساب، لماذا نسقط كل ذلك المجد من تاريخنا! لقد كنا امبراطورية لها صولجان ومجد، وإن ناخت علينا القرون بكلكلها وقلب لنا الدهر ظهر المجن لا يجب ان ينسينا ذلك تاريخنا، فالامة التى تجهل تاريخها لن تنهض على الاطلاق. والايام دول:
اذا ما الدهر جر علي اناس بكلكله اناخ بآخرينا
ان نهضة بلادنا تعتمد اولا على ربط حاضرنا بماضينا ولن يحدث ذلك ان لم نوضح للناشئة من الشباب تاريخ اسلافهم وبطولاتهم، فإن دارت علينا الايام ستدور على الآخرين، ولن يصلح امر البشرية إلا بالعودة لنا فنحن اصلها وفصلها ومنبع حكمتها- الا يزعم ان النبي لقمان الحكيم عليه السلام منا- وسيحدث ذلك وان تطاولت القرون وظن البعض بالله الظنونا! ستاتي اجيال من بين ظهر هذه الامة لتعيد لها مجدها وسؤددها، فلن تذهب كل هذه الدماء والبطولات هدرا، بل هي طريقنا للمجد وان طال الطريق وادلهمت علينا الخطوب!
التحية للجيش السوداني من لدن قائد جيش مملكة كرمة الى القائد البرهان. فجيش وشعب بكل ذلك التاريخ لن يهزم ولن ينكسرا فنحن لسنا اصحاب (كشك ومعزتين) بل امة ضاربة في القدم، وما نراه اليوم ليس سوي فصول لمعارك تخبوا وتتجدد خاضها اسلافنا من قبل و يخوضها ابناؤنا الان وسننتصر شاء من شاء وابي من ابى!
الرحمة والمغفرة لشهداء امتنا عبر التاريخ، و التحية لضباط وجنود الجيش اينما كانوا، انتم ايها الفرسان احفاد ابطال عظماء سارت بذكر بطولاتهم الامم فلا تهنوا وارثكم عظيم ممتد ولتبقي رأيتكم خفاقة كما ظلت دوما، وسننتصر ونعلوا ونرتقي ونسموا وان كره الجنجويد واصحاب الكشك والمعزتين او كما قال!
هذه الارض لنا



