خالد محمد احمد
من نافلة القول، إن الإعلام سلاحٌ لا يقلُّ فتكًا عن الرصاص والخطط العسكرية في قدرته على حسم المعارك أو قلب موازينها. ومن خلال متابعةٍ لصيقة منذ اندلاع الحرب، وقفتُ على مكامن ضعفٍ وقوة في منظومة إعلام الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع، انطلاقًا من ملاحظاتٍ وتقديراتٍ شخصية يمكن أن تشكِّل نواةً لبحثٍ علمي. وقد آثرتُ عرض التقييم وفقًا لمحاور تحليلية بدلاً من السرد الزمني حرصًا على وضوح الفكرة، وتجنُّبًا لتشتيت القارئ.
أدركت قيادة الدعم السريع منذ الوهلة الأولى أن حسم المعركة لن يكون بالسلاح وحده، بل بقدرة خطابها على اختراق العقول وصناعة السرديَّات. لذلك، أنفقَتْ على إعلامها بسخاءٍ، فأنشأت شبكةً واسعة تستهدف دوائر الصحافة العالمية، ومراكز صُنع القرار في الحكومات والبرلمانات، ومراكز البحوث، إضافةً إلى منظمات المجتمع المدني الدولية. وقد أغرقت هذه الشبكة تلك الجهات بتقارير ومِلفَّاتٍ يُرجَّح أن كثيرًا منها ملفَّقٌ ومشحونٌ بالافتراءات، وهو ما ساعدها في تقديري على التسلُّل إلى دوائر مؤثِّرة؛ إذْ استقطبت برلمانيين ومسؤولين رسميين، ونظَّمت فعالياتٍ في مراكز بحثية رصينة تؤثِّر في الرأي العام، وتستلهم منها الحكومات الغربية رؤيتها وصياغة سياساتها الخارجية، مثل المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) وغيره. كما ظهرت واجهاتٌ أخرى لتعزيز سرديَّة الدعم السريع، أبرزها معهد واشنطن للسودان الجديد (Washington Institute for a New Sudan) برئاسة وزير العدل السابق نصر الدين عبد الباري.
في المقابل، ظلَّت جهود الدولة في هذا المضمار أسيرةً لمحدوديَّتها، مقيَّدةً بضعف الإمكانات، وأقلَّ قدرةً على مخاطبة الرأي العام الدولي.
دخلت الميليشيا الحرب بآلةٍ إعلامية أكثر تنظيمًا، إذْ أغرقت الفضاء في مراحلها الأولى ببياناتٍ منسَّقة ومقاطع مصوَّرة وصوتيَّة لقائدها الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) عكست في ظاهرها قدرًا من انضباط الخطاب. غير أن هذا الزخم لم يَدُم طويلاً؛ فمع تزايد الخسائر الميدانية انزلق الرجل إلى شخصنة الصراع وتوزيع الإساءات لمعارضيه؛ كما فقدَت إطلالاته بريقها مع تلاشي عامل الإثارة بشأن مصيره حيًّا أو ميتًا، وانحسار تمدُّد قواته وتراجعها نحو الغرب. وممَّا أضعف الحضور الإعلامي للميليشيا في الآونة الأخيرة غياب نائب القائد الفريق عبد الرحيم دقلو وتركه ثغرةً ملحوظة يعمل الآن ما يُسمَّى تحالف (تأسيس) على تغطيتها.
إلى جانب ذلك، فقد أضرَّ تدرُّج خطاب الميليشيا في مسار ٍمتخبِّط بصدقيَّته؛ إذْ استهلَّ دعايته بشعاراتٍ سياسية عامة عن جلب الديمقراطية في محاولةٍ لوراثة شعارات الثورة، ثم سرعان ما انصرف إلى خطابٍ ثأري ضدَّ خصوم بعينهم تحت لافتة (الحرب على الفلول والكيزان). ومع امتداد الحرب تبنَّى سرديَّة الهامش والتهميش مُستحضرًا ما يُعرَف بخطاب (دولة 56)، قبل أن ينحدر إلى مستوى جهوي وعرقي تجسَّد في انتهاكاتٍ جسيمة ممنهجة ضدَّ المدنيين على أساس الانتماء الجغرافي والعرقي.
على الصفَّة الأخرى، بدا الجيش في مستهلِّ الحرب مرتبكًا إعلاميًا بسبب وقع الصدمة وفقدان السيطرة على مِنصَّاته الرسمية. كما أن قيادته كانت سببًا جوهريًا في ارتباك الخطاب السياسي لعدم توصيفها المعركة توصيفًا دقيقًا في البداية؛ إذْ أشار البرهان إليها بأنها (حرب عبيثة)، وهو تعبيرٌ لم يعكس بدقَّة حجم هذا الحدث التاريخي. ويمكن القول إن تسمية الأمور بأسمائها وتثبيت مصطلح (التمرُّد) في مراحلها الأولى كانا سيمنحان الخطاب وضوحًا ويقلِّلان الالتباس في وعي الجمهور الداخلي والخارجي، على غرار ما يفعل الغربيون في حروبهم من خلال مصطلحاتٍ محدَّدة، مثل (الحرب على الإرهاب).
ومع ذلك، ما لبثت الأمور أن تحسَّنت تدريجيًا بعدما استردَّت سونا والتلفزيون والإذاعة عافيتها وعادت للعمل رغم شحِّ الإمكانات، فأسهمَت في إبراز أنشطة مسؤولي الحكومة في عددٍ من الولايات، وهو ما منح الجيش زخمًا وإيحاءً بالسيطرة؛ كما عرَّى تركيز الإعلام الحكومي على مشروعات إعادة الإعمار وتحسين الخدمات في الوسط ضعف إعلام الدعم السريع، الذي عجز عن إبراز ما يزعم أنه يقدّمِه من خدماتٍ في مناطق سيطرته.
وممَّا عزَّز أداء الجيش إعلاميًا أيضًا إحسانُ الناطق الرسمي باسم الجيش، العميد الركن نبيل عبد الله، توقيتات ظهوره، وتقديمه إيضاحاتٍ عملياتية أولاً بأول بثَّت الطمأنينة في الرأي العام، ووأدَت الشائعات التي يروِّجها أنصار الدعم السريع في مهدها. ومن الملاحظ أيضًا أن إطلالات الفريق أول ياسر العطا أسهمَت إسهامًا بارزًا في رفع الروح المعنوية إبان تقدُّم الميليشيا شرقًا قبل أن يتراجع حضوره تدريجيًا، ربما تزامنًا مع بروز رئيس الوزراء كامل إدريس في المشهد. غير أن المفارقة اللافتة هي أن وزير الإعلام، خالد الإعيسر، أُسْكِت ومُنِع من النطق باسم الحكومة في فترته الثانية من شغل المنصب، ففقدَت الحكومة صوتها الرسمي، وأوحى هذا التكميم بوجود صراعٍ مكتوم بين المكوِّنين العسكري والمدني داخل الحكومة.

