رأي

“تقدم'” والحرب التي لم تحدث!

 

‏إبراهيم عثمان 

في كتابه الشهير “حرب الخليج لم تحدث”، لم يكن الفيلسوف الفرنسي جان بودريار ينكر وقوع العمليات العسكرية في العراق في حرب الخليج الثانية، بل كان يكشف عن مفارقة أعمق: الحرب الحقيقية قد جرى محوها بالتمثيل الإعلامي المكثف، وتحويلها إلى محاكاة تقنية باردة خالية من الفوضى والمأساة. لقد حدثت الحرب، نعم، لكنها لم تُعاش كحدث واقعي بل عُرضت كمنتج تلفزيوني محكوم بطغيان الصورة على الحدث، وبابتلاع السرد المصمم مسبقاً للحقيقة المرة.

* في السودان اليوم، وعلى نحو أكثر تطرفاً، تخترع “تقدم” حرباً لا وجود لها إلا في خطابها، حربٌ موازية، أو خيالية: أشعل الجيش شرارتها، بينما الميليشيا ضحية مسكينة لعدوان غاشم! في هذه الحرب الموازية تختفي غزوة مطار مروي، أو يُلوَى عنقها لتشهد للغازي، وتُعدَم كل الأدلة في العاصمة، ويُحذَف الراعي الإقليمي ومطامعه، والمرتزقة الأجانب. أما بعض دول الجوار ــ التي يعبر بها سلاح الميليشيا ــ فهي ضحية لسودان أصبح يصدر المشاكل والعنف لجيرانه والإقليم والعالم!

* في هذه الحرب الموازية التي تتولى “تقدم” صناعتها لغوياً ــ قبل الميليشيا وراعيها الأجنبي ــ لا يتم فقط حذف الفاعل الحقيقي، بل يُخلق بديل خيالي يحل محلّ المعتدي الفعلي. في هذا السيناريو، لا تنكر “تقدم” الحرب، لكنها تنتج نسخة مقلوبة منها، محكومة بمنطق التخفيف والتعميم والتواطؤ، فتحاكي المأساة بدل أن تكشفها، وتعيد تشكيل الواقع بحيل خطابية، تشبه تماماً ما تحدث عنه بودريار: “حرب تُعرَض ولا تُخاض، تُصاغ ولا تُفهَم، تُرَى ولا تُواجَه”!

* تختزل “تقدم” التصدي للعدوان الأجنبي/ الميليشي على السودان في “صراع عبثي”، وترفع العدوان من على مسرح الأحداث، تماماً كما يحدث المسح من شاشة في مونتاج سياسي. وكما قال بودريار: “الحرب لم تقع، بل ما وقع هو تمثيلها”، كذلك هي سردية “تقدم”، لا تُحاكي الحرب بل تُزيف بنيتها، فتحولها إلى ملصق دعائي!

* في خطاب “تقدم”، لا يُطرح سؤال “من بدأ الحرب” ويُعطَى أهمية استثنائية، ليُكشَف عن الحقيقة، بل لتُخفَى، وتُصنَع أخرى تلائم الحرب الموازية، وتتحكم في مسارها، وفي طريقة نهايتها، ومن يجب أن يُعاقب ومن يجب أن يُكافأ حينها، ليكون التظاهر بالحياد، هو “تنازل نبيل” عن “واجب” نصرة “المظلوم”، وهو الميليشيا في هذه الحالة!

* ما تنتجه “تقدم” ليس سردية بديلة، بل حرب أخرى لا تشبه الحرب الدائرة. نسخة خفيفة، قابلة للتسويق الدبلوماسي، لا تُربِك ولا تُحرِج الميليشيا ولا راعيها الإقليمي. حرب مصمّمة على المقاس: بلا مرتزقة، بلا أطماع استعمارية، بلا أدلة. وإنما مجرد انزلاق، تحريش، استهداف للإطاري، أي شيء إلا أن تكون حرباً بدأتها ميليشيا ممولة ومدعومة ومُستقدَم كثير من جنودها من الخارج!

* في هذه الحرب المصنوعة، لا تُبنى الهيمنة على حجم النار، بل على كثافة الصمت. فالصمت هنا ليس غياباً للكلام، بل امتناعاً مقصوداً عن تسمية الأشياء بأسمائها. وهو ما يُتيح لحرب “تقدم” الموازية أن تمر. وأن يناسبها حديث الحياد، والترويج لعبارات مثل “لا غالب ولا مغلوب”، و”كل الأطراف مخطئة”، وهذا ليس سوى شكل من التواطؤ الذي يُقدَّم بوصفه فضيلة سياسية!

* في قلب الخطاب الذي تصوغه “تقدم”، لا نجد الحرب كما وقعت، بل كما كان يجب أن تقع لتُناسب مصالح الميليشيا والراعي والداعمين المحليين. وهي ليست رواية ناقصة أو معدلة، بل نسخة تمثيلية مكتملة الأركان، نُزعت منها الحقيقة في عملية إنتاج كاملة، تنتمي لما سماه بودريار بـ”ما بعد الواقع”. حيث تصبح الصورة أقوى من الحدث، والخطاب الزائف أكثر صدقاً من الضحية المنكوبة، والسكوت أكثر بلاغة من الدم!

* وهكذا، لم تعد الحرب في خطاب “تقدم” واقعة تُناهَض، بل صورة تُدار.. وتقدّم ــ بما تظنه من قدرتها على إعادة رسم حدود الألم ــ تدّعي امتلاك المفاتيح الأخلاقية لما يجب أن نرفضه، وما يجب أن نمرره، حتى لو كان على حساب دمنا ووطننا وسيادتنا! ولذلك لا ترفض ‏”تقدم” الحرب، بألف لام التعريف، بل ترفض حربها الشبحية الافتراضية، ترفض الاعتراف بالحرب كما هي. ترفض الحرب التي لا تناسب رواية الراعي الأجنبي. أما الحرب الواقعية، التي تُشنّ على الشعب والدولة، فتبدو لها تفصيلًا يمكن تجاوزه أو حذفه من النص!

* ما تريده “تقدم” ليس سلاماً حقيقياً يلائم الحرب الدائرة، بل سلاماً مشروطاً بمخاطبة جذور الأزمة كما رسمتها في الحرب الموازية، وإعادة توزيع الذنب على نحو يخدم تغطية الجريمة لا كشفها. وبينما لا تزال نيران الحرب الحقيقية مشتعلة، تمضي “تقدم” في تسويق حربٍ أخرى: نظيفة، حيادية، بلا فاعلين غير خصومها. لكنها ــ ككل محاكاة مغشوشة ــ لا تصمد طويلاً أمام أسئلة الواقع الكاشفة.

ولأن الحقيقة لا تموت، حتى إن قُتلت في اللغة، فإن الحرب التي تحاول “تقدّم” دفنها ستظل تطلّ من نوافذ الخراب، من وجوه النازحين، من شهادة المدن المخربة المنهوبة. ولن تغطيها المسميات البديلة، ولا الحياد المبتذل، ‏وإذا كان للسلام أن يُبنى يوما، فلن يُبنى على حساب الحقيقة، ولا على نسخة مزوّرة من الحرب. بل على اعتراف كامل، لا يحتمل التأويل، بأن ما جرى ليس نزاعاً بين طرفين، بل عدوانٌ على وطن، وجريمةٌ بحق شعب، وإلا فسيكون سلاماً زائفاً يمهد لحرب قادمة يشعلها ذات الراعي الأجنبي وبذات الأدوات المحلية. وهذا ما لن تسمح به إرادة الشعب السوداني وقواته المسلحة، ولن يفرضه الابتزاز بالإجرام والتخريب والتقسيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى