الهويات الأهلية في السودان: رجعة إلى الأصل أم قفزة في الظلام؟(1)

د.التجاني عبد القادر

بعد مرور عامين على ثورة السودان لم تبرز على الساحة السياسية فكرة جديدة، أو تنظيم بديل يعبر عن الحالة الثورية. وإذا استثنينا الوقفات الاحتجاجية لبعض شباب الثورة، والضجيج الاعلامي الذي تحدثه أحزاب اليسار الثلاثة (الشيوعي والبعث والناصري)، فان الحراك السياسي الفعال في الفترة الأخيرة هو ما يقوم به قادة الحركات المسلحة من جهة وزعماء القبائل من جهات أخرى. فتقرأ في الصحف مثلا بيانا بتوقيع “تنسيقية” قبيلة الكواهلة” تدعو للإفراج الفوري عن معتقلين من القبيلة، وتهدد بقطع خط البترول الذي يمر بأراضيها؛ وتسمع أن مواطني الجنينة يطردون الوالي من أمانة الحكومة؛ وتقرأ في مكان آخر خبرا عن اعتصام الجعليين بسبب اعتقال عمدتهم ورئيس مجلس شوراهم، فتتفاعل معهم وفود من البطاحين والكواهلة والعبابدة والبشاريين؛ وتسمع أصواتا تنادى بحق تقرير المصير للإقليم الشرقي، ووفودا من زعماء سنكات والبحر الأحمر يحتجون على التشهير بزعيمهم محمد طاهر ايلا، واعتصامات للبجا في سنكات (على الطريق القومي الذي يربط الخرطوم بميناء بورتسودان)، مطالبين بتعيين والي جديد. وتسمع أحاديث أخرى كثيرة عن قبائل أخرى صارت لها جيوش ذات معسكرات في عاصمة البلاد، جنباً الى جنب مع جيوش الحكومة القومية. ولنا أن نتساءل: ما الذي أيقظ هذه الميول القبلية ودفع بقطاعات واسعة في الشعب لإعادة التفكير في الهويات؟ وفى أي اتجاه سوف تقودنا؟ وهل يمثل هذا الحراك خسراناً لكل الجهود التي بذلت في اتجاه الوحدة الوطنية، أم إنه يمثل رأسمال اجتماعي يمكن أن يوضع في خانة المشاركة الشعبية الحميدة، التي تشكل رقابة على الحكومة الانتقالية، وتدفعها في مسار التحول الديموقراطي؟ ومن هم قادة هذا الحراك؟ أهم مشايخ حقيقيون ويسعون لتحقيق مصالح قبائلهم، أم أنهم زمرة وقادة أحزاب يبحثون عن سلالم يصعدون بها الى السلطة السياسية؟
نحاول في هذه المقالة أن نجيب على بعض هذه الأسئلة من خلال النظر في طبيعة هذه الظاهرة، والتعرف على أسبابها، وتلمس النتائج التي يمكن أن تقود اليها. هناك بالطبع أسباب واضحة للعيان، كما أن هناك ما هو أكثر خفاء. فاذا بدأنا بما هو ظاهر، فيمكن أن نقول إن النظام السابق قد “اصطنع” ورقة القبيلة وحاول أن يستفيد منها سياسيا وعسكريا (حالة دارفور مثلا). ولكن الظاهر أيضا أن هذه “الورقة المصنوعة” قد صارت هي ذاتها واحدة من أهم العوامل التي أدت الى اسقاطه. مما يجعلنا نتساءل: إذا كانت القبيلة مجرد صناعة أمنية مؤقتة فلماذا لم تسقط مع سقوط النظام الذي صنعها؟ ولماذا صارت عنصراً فاعلاً في المرحلة الانتقالية؟ لا يمكن بالطبع الإجابة على السؤال بالرجوع الى عامل واحد قاطع، ولكن يمكن التأشير على عاملين محتملين، الأول: البحث عن شرعية سياسية جديدة. فبسقوط حكومة الانقاذ وحظر نشاط المؤتمر الوطني، واعتقال قيادات الإسلاميين وتصفية مؤسساتهم، وبتقلص الدور الذي كانت تؤديه قيادات الأحزاب الكبرى (خاصة بعد غياب الامام الصادق والسيد الميرغني)، تولدت فجوة في القيادة وفى التنظيم، واتسعت دائرة “الفراغ السياسي”، فاندفع نحوها الثالوث اليساري (الناصريين والبعثيين والشيوعي) من جهة، والحركات المسلحة من الجهة الأخرى. أما من لم يكن من الفصائل المسلحة أو من فصائل اليسار فلا يبقى له خيار غير “الوقفات الاحتجاجية”، أو الرجوع الى الهويات الاجتماعية التقليدية. أما العامل الثاني فيعود الى ضعف الحكومة الانتقالية، والذي يتمثل في اختلال النظام العدلي، والانفلات الأمني والاجتماعي، والضيق الاقتصادي، وشيوع السلاح، وتفشى الجريمة، حيث صار عدد من الناس يجدون أنفسهم في العراء، ويحسون بالخطر، ففضل عدد كبير منهم الرجوع الى هوياتهم الاجتماعية التقليدية (القبائل والطرق الصوفية) بوصفها الحصن الأخير للدفاع عن النفس والمال، وللشعور بالانتماء. هذا، ولا يستطيع أحد أن ينكر أن “القبائل” ظلت تشكل الخيوط الأساسية في النسيج الاجتماعي السوداني، كما لا شك في انها ساهمت، كوحدات اجتماعية-سياسية، في الحفاظ على هوية السودان ودينه، وقاتل رجالها ونساؤها في ثورات متكررة ضد الاستعمار، ومثلت من ثم سياجا للحماية ومصدرا للقيم السودانية النبيلة. غير أن هناك فارقاً دقيقاَ بين القبلية كمؤسسة مدنية جامعة نافعة، وبين “العصبية القبلية” التي تمثل جانبا سالبا يرمز الى الاستعلاء العرقي. ولهذا فقد كان قادة الرأي والفكر في سودان ما بعد الاستقلال (الليبراليون منهم والماركسيون والاسلاميون) لا ينظرون إلا إلى هذا الجانب السلبي في الولاء القبلي؛ بل ويتمنون زوال القبيلة بسلبها وايجابها، وتحولها الى هويات “حديثة” تكون أكثر اتساعاً وانفتاحاً، كالنقابات والأحزاب والجمعيات والمنظمات الطوعية الجامعة (وذلك بحسب رؤية كل منهم للحداثة). كان بعضهم يتنبأ بأن الكيانات الأهلية التقليدية ستتطور في اتجاه “الكفاءة والإنجاز”، وسيتضاءل دور “الأنساب” والعشائر في الحراك الاجتماعي، وستكون للفرد قيمة اجتماعية أصالة عن نفسه، نابعة من إنجازه لهذا العمل أو ذاك، لا من انتمائه لهذه العشيرة أو لتلك القبيلة. ويعود ذلك في تقديرهم الى الهجرة المستمرة من الأرياف الى المدن، والى الاتساع المطرد لنظام التعليم العام، ولسيادة قيم السّوق، ولتعمق وسائل الاتصال والتي ستعمل جميعها على “تفكيك” المجتمعات القديمة، وإعادة صهرها في مجتمع حديث. كان الماركسيون مثلا يقدرون أن التكوينات الاثنية بلهجاتها المغلقة، واعتقاداتها التقليدية، سوف يتم تجاوزها تماما في المجتمعات “الحديثة”، وستحل مكانها التصنيفات “الطبقية”، اذ أن الناس في الأوضاع الاقتصادية الحديثة سيكونون أكثر “رشادة” وعقلانية، وستكون المصلحة الاقتصادية (لا الانتماء القبلي) هي التي ستغذى الحراك الاجتماعي. أما الإسلاميون بكافة تنوعاتهم فكانوا يتوجسون أيضاً من القبلية ويتوقعون أنه كلما زاد الوعي العام والالتزام الديني، كلما انخرط جمهور المسلمين في التيار الاسلامي العام، وتقلصت ولاءاتهم القبلية وصاروا جزءا من “أمة” واحدة، حيث لا فرق بين عجمي ولا عربي إلا بالتقوى.

Exit mobile version