عبد الوهاب الأفندي
أحدث اندلاع حرب مليشيا الدعم السريع (ومناصريها المحليين والأجانب) ضدّ الجيش السوداني حالة استقطاب حادّة، وسط المراقبين والمنظمات الإقليمية والدولية، بشأن كيفية إنهاء هذه الحرب. وقد تطوّر النقاش، في نهاية المطاف، إلى تنازع بين أطرفه، فهناك أولاً وجهة النظر التقليدية في فضّ النزاعات، وقوامها العمل داخل ميزان القوى السائد، وجذب طرفي النزاع إلى مساومة تنتهي بإغرائهما بقبول هدنة تؤدّي بالتدريج إلى صفقة سلام، ينال فيها كلّ طرفٍ بعض مآربه. من جهة أخرى، تبلورت وجهة نظر مخالفة ترى أن حرب السودان لم تكن بين طرفَين عسكريَّين، بل موجّهة في الأساس ضدّ المدنيين السودانيين من طرفٍ عسكري مسلّح حتى أسنانه، هو مليشيا الدعم السريع، في حين كان الجيش السوداني طرفاً ثالثاً يدافع عن نفسه، وعن المدنيين بالسودان في تلك الفترة، وأن أي هدنة أو صفقة بين الجيش والمليشيا ستكون على حساب المدنيين.
نجاح الجيش السوداني، وجحافل المتطوّعين المساندة له، في إعادة الأمن مهّد السبيل إلى حلّ المشكلة الإنسانية بسرعة
استند الموقف الثاني إلى أصوات المدنيين في الخرطوم التي كانت تتعالى، كلّما أُعلنت هدنة إنسانية، أن مثل هذه الهدن وبال على المدنيين، لأنها كانت تفرّغ المليشيا للزحف على المنازل، وممارسة الابتزاز والنهب والقتل، ضدّ المدنيين، ما يؤدّي إلى أن يكون المردود الإنساني لمثل هذه الهدن عكسياً. وقد وجد كاتب هذه السطور نفسه منخرطاً في هذا السجال مبكّراً، في كتاباته في “العربي الجديد”، وفي سجالاتٍ كان بين أطرافها دبلوماسيون أفارقة ودوليون وأوروبيون، تركّزت بالأساس في لقاءات “غير رسمية” بدأت تعقد منذ أيام الحرب الأولى، تحت قيادة رئيس أفريقي سابق، وبتفويض أفريقي. حضرت اللقاء ثلّة من الدبلوماسيين الأفارقة والأوروبيين (منهم مبعوثو دول أوروبية إلى السودان أو إلى المنطقة)، وعدّة دبلوماسيين أميركيين رفيعي المستوى، إضافة إلى شخصياتٍ سودانية، منها بعض كبار المسؤولين من الحكومة الانتقالية المقالة وقتها. وقد اتخذ كاتب هذه السطور الموقف الداعم للرؤية الثانية، بحجّة أن الهدنة الإنسانية التي كانت معروضة حينها بطلب دولي لن تكون إنسانية ما لم تشمل توقّف العدوان على حرمات المساكن، واستمرار قطع المليشيات الطرق على المعونات الإنسانية، وعلى حركة المواطنين، حتى الهاربين من جحيم العدوان على المساكن، ومع احتلال المستشفيات ومحطّات المياه، وغيرها من المرافق الضرورية للحياة والعناية الصحّية. وعليه، لا بدّ من أن تشمل الهدنة الإنسانية حماية حرمات المنازل والمشافي، وغيرها من المرافق العامّة، وتأمين الطرقات. وقد أيّدتْ مقترح الكاتب حفنة تُعدّ على أصابع اليد الواحدة من ذلك الجمع كلّه من السودانيين.
إلا أن رئيس اللقاء انحاز إلى هذا الموقف، وكلّف مجموعة من الحضور، ذوي الخبرة في هذا المجال، بكتابة ما سمّي “بروتوكول الشؤون الإنسانية”. وقد وجد ذلك البروتوكول طريقه إلى وسطاء مسار جدّة (السعودية) للوساطة، قبل أيام من انعقاد ذلك الملتقى، فأصبح عماد “اتفاق جدّة”، الذي وقع عليه وفدا التفاوض السودانيان في 11 مايو/ أيار 2023. ولكنّ أيّاً من بنود الاتفاق لم ينفّذ بعد أن أخذت المليشيا تراوغ وتشترط لتنفيذه، بينما استمرّ جنودها يمارسون المزيد من الفظائع والانتهاكات ضدّ الحرمات كافّة. وعليه، استفحلت لاإنسانية المليشيا، في حين ظلّت الأطراف الدولية ترفع راية الإنسانية لمزيد من الدعوات لإعطاء المليشيا مزيداً من الحوافز، كي تستمرّ في ممارساتها من دون وازع أو رادع.
نجد منطق القوة في غزّة قد قضى على أي ذرّة إنسانية في التعامل مع وضع بربري كالح
وفي الوقت نفسه، انخفض سقف توقّعاتنا إلى درجة أننا أصبحنا في لقاءاتنا مع المبعوثين الدوليين والأفارقة، وكبار الدبلوماسيين الغربيين، نطالب بأن يمارس المجتمع الدولي والاتحاد الأفريقي ضغوطاً على المليشيا لوقف انتهاكاتها فقط، من دون التطرّق لعقابها على ما سبق. ويذكر الكاتب أنه كرّر على أكثر من دبلوماسي (أو مبعوث أوروبي أو أميركي) الطلب بأن تضغط القوى الدولية والاتحاد الأفريقي على المليشيا في هذا الصدد، عبر إرسال رسالة واضحة، أنه لن يكون لها أبداً قبول سياسي، إذا لم توقف انتهاكاتها. وهذا أمر من البديهيات، إذ إن هذه الانتهاكات محرّمة دولياً (في الحرب وفي غيرها)، وهي ليست موضع تفاوض أو مساومة، ناهيك عن أن تكون موضع مكافآت تمنح لمرتكبها. وعليه، كان يجب أن يكون الرفض القاطع لها وتجريمها من صلب نقاط التوافق الدولي، ولم يكن معجزة أن تواجَه “الدعم السريع” (ومؤيديها) بهذا المواقف الواضح.
ولكنّ الردود كانت مدهشة في تخاذلها ومراوغتها. في حوار مع دبلوماسي أممي من دولة أفريقية، كلّف بدور مهم يتعلّق بالأزمة، تساءل الرجل: أليس الوضع هو نفسه في مواقع سيطرة الجيش؟ أوشكت أن أقطع النقاش معه، لكنّني ذكرت له بصبر أن الأمر ليس كذلك، إذ إن مناطق سيطرة الجيش هي المناطق الآمنة، التي ينزح إليها الملايين الذين هربوا من مواقع سيطرة “الدعم السريع”، وأن من واجبه بحكم مهمّته أن يستقصي مثل هذه الأمور قبل أن يتولّى دوره المهم. في مقابلة أخرى مع مبعوث للمنطقة من دولة أوروبية مهمّة، أشار إلى دور دولة عربية ناشطة في الأزمة قائلاً، إنهم لن يستطيعوا كأوروبيين الضغط عليها، لأن الولايات المتحدة وإسرائيل يحتاجانها لتلعب دوراً مسانداً لهما في حرب غزّة. جمدت من هول الصدمة، فما قاله الرجل بوضوح كان يشير إلى تبادلية دعم الانتهاكات: من يدعم انتهاكاتنا في غزّة ندعم انتهاكاته وحلفاءه في السودان!
أنظر، الآن، إلى المسألة برمّتها من وجهة نظر أخرى، ليس لالتباس دور “صانعي السلام” فقط، بل لأن تغيّر الوضع في الأرض قد أظهر نجاعة “الحلّ المباشر” لأزمة مثل هذه، عبر فرض الانصياع لمعايير الدولة على قوة عسكرية سياسية غير قابلة بطبيعتها لسلوك سبيل الرشد. هذا، في مقابل عجز القوى الدولية والإقليمية وإعراضها عن مجرّد الضغط في هذا الاتجاه، فإن على الضحايا (ومن حقّهم) الدفاع عن أنفسهم، ومن واجبهم كذلك. وكنت قد أشرت إلى هذا الحلّ في حوار مع دبلوماسيين غربيين حين قلت لأحدهم، جادّاً غير مازح، إن أفضل مساعدة إنسانية تقدّم للسودانيين (في هذا الوضع) هي تزويد الجيش بمزيد من المسيّرات. فلا جدوى في هذا الوضع من إرسال مساعداتٍ خارجية إلى السودان، عبر مناطق سيطرة المليشيا التي تسرق القوت من بيوت الفقراء، فالمساعدة في ردّعها من سرقة القوت الموجود أقلّ كلفة من إرسال أطنان من الطعام من الخارج، مع عاملي إغاثة لتوزيعها، فقد كانت أسواق الخرطوم تفيض بالمأكولات من كلّ نوع، ولكن انعدام الأمن هو ما فرّق بين المرء وغذائه في أنحاء السودان المختلفة، لأن كثيرين يفقدون أرواحهم وهم في طريقهم إلى شراء رغيف خبز أو سلّة خضار.
المهم أن نجاح المقاومة السودانية، ممثّلة في الجيش، وجحافل المتطوّعين المساندة له، في إعادة الأمن إلى معظم مناطق شرقي ووسط السودان والغرب الأوسط منه، بما فيه العاصمة، مهّد السبيل إلى حلّ المشكلة الإنسانية بسرعة، فعودة الاستقرار ستساعد في تأمين الإنتاج الزراعي وطرائق توزيعه، وأيضاً إلى انتعاش الأسواق. كما أن تقديم الدعم للمتضرّرين سيصبح أقلّ كلفة، وييسّر إغاثة الملايين بمعشار تكلفة عمليات الإغاثة العابرة للحدود. أكثر أهمية من ذلك كلّه أن استخدام القدرات المحلّية (بدعم خارجي محدود، ومن دول صديقة غير طامعة) يمثّل سابقة إقليمية مهمّة في حماية الشعوب، وتعزيز سلطة الدولة بدعم شعبي قوي.
لو أن مجرمي “الدعم السريع” قبلوا بمبادرة جدّة وغيرها لربّما كانت المليشيا تحتفظ بغالب جنودها سالمين، وأسلحتها ومناطق سيطرته
إذا أضفنا إلى هذا النصر الصاعق في سرعته وتمامه ما شهدته سورية خلال العام الماضي من هزيمة صاعقة لنظام استبدادي، بدا أنه راسخ الجذور ومدعوم خارجياً، في أيّام معدودة (في مقابل فشل كلّ محاولة، حتى لفرض الأولويات الإنسانية في غزّة)، علينا مراجعة “فقه” فضّ النزاعات السائد حالياً إطاراً نظرياً، ودليلاً عملياً، لفضّ النزاعات المسلّحة، مع افتراضاته بقبول قانون القوة أساساً مقابل منطق الحقّ، وفرضه على الطرف الأضعف للخضوع للأقوى مع تجميل سطحي لواقع قبيح، فإن علينا إعادة التفكير في قوة الشعب وإمكاناته، ليس شعاراً فقط، بل واقعاً قادراً على فرض ذاته في وجه ظلام الواقع ودعاوى الحلول الوسط. في الحالين، فإن قوى البطش والظلام ساهمت في هذا النصر. فلو أن الأسد قبل بأطروحات أستانة وجنيف وبالمبادرة العربية وغيرها، لربّما كان لا يزال يهيمن، ولو أن مجرمي “الدعم السريع” قبلوا بمبادرة جدّة وغيرها لربّما كانت المليشيا تحتفظ بغالب جنودها سالمين، وأسلحتها ومناطق سيطرتها، ولكانت قادرة على أن تفرض وجودها السياسي، على الأقل مع دعم أنصارها المحلّيين ومموّليها الخارجيين.
ولكن شاء الله غير ذلك في الحالين، رافعاً في كليهما الغمّة عن شعب، كان ربّما سيعاني أكثر. وفي المقابل، نجد منطق القوة في غزّة قد قضى على أي ذرّة إنسانية في التعامل مع وضع بربري كالح. وربّما يكون في هذا درسٌ لجهود بناء السلام وأصحابها، بأن صنع السلام لا يعني بالضرورة خضوع الضعيف للقوي، ولضعف الخيال السياسي، وضيق الأفق بالاقتصار على احتمالات محدودة، ووسائل روتينية، لا يُفكَّر خارجها ولا في غيرها.