د. التجاني عبد القادر
ولكن الواقع المشاهد، في السودان وغيره من المجتمعات (من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، إلى دول أوربا وأمريكا الشمالية والوسطى إلى الهند والصين)، لا يؤكد بطلان هذه التنبؤات فحسب، وإنما يثبت نقيضها؛ أي أننا بدلاً عن أن نشهد انفتاحاً عالمياً صرنا نرى الانغلاق الشعبوى في أغلظ صوره، وبدلاً من أن نرى تراجعاً في الانتماءات القبلية صرنا نرى تنامياً متزايداً في التضامن القبلي، وفى الارتباط بالتكوينات الاجتماعية التقليدية السابقة للحداثة. بل وأشد من ذلك غرابة أن نمط الحياة المادية القائم على اقتصاد السوق و”المصلحة الاقتصادية”، والذي كان يتوقع له أن يقضي على التماسك القبلي، أو أن يعيد ترتيبه على أساس “طبقي” كما يحلم الماركسيون، صار هو ذاته ناتجا من نواتج التجمعات القبلية. فصار كثير من أفراد النخب الحديثة، من حملة الشهادات المهنية، يتوصلون إلى مصالحهم الاقتصادية من خلال شبكة علاقاتهم القبلية، ويديرون عملياتهم التجارية عبر مصاهرات وشبكات عائلية وعشائرية، ولهجات محلية. ثم والأكثر غرابة من هذا أن صرنا نرى نفراُ من السياسيين المحترفين (ليبراليين وماركسيين واسلاميين) يتباعدون عن أحزابهم السياسية، وعن نماذج “الرشادة” و”الطبقة” و”الأمة” التي كانوا يبشرون بها ويصيروا “قادة” لقبائلهم (مع استبدال بعض الألفاظ القديمة كالقبيلة والسلطان والشرتاية والعمدة بعبارات أخرى حديثة، مثل قولهم “الفصيل الثوري” والقائد الميداني، ومجلس الشورى، والرئيس، و”تنسيقية” القبيلة، والناطق الرسمي للقبيلة، والمجلس الأعلى للنظارت!). هذه ظاهرة لم تعد، بتقديرنا، مجرد موضة اجتماعية-سياسية، بقدر ما صارت مشكلة معرفية، وحلها قد لا يتحقق من خلال النماذج القديمة وانما يحتاج الأمر الى تغيير في النموذج (paradigm shift)
هذا، وقد لاحظ كثير من الدّارسين هذا المأزق، ودار على أساسه جدل علمي طويل بين علماء السياسة والانثروبولوجيا الافريقيين حول مفهوم القبيلة في السياق الافريقي. فصار بعضهم الى القول بأنه لا ينبغي النظر الى “القبيلة” باعتبارها “حقيقة موضوعية” كما كانت في مراحل ما قبل الحداثة، وانما ينبغي أن ينظر اليها “كغطاء إيديولوجي” (أو حتى أسطورة) تستخدمه بعض النخب لتعظيم مكاسبها السياسية والاقتصادية. وقد انتهى إلى هذا القول الأستاذ طلال أسد بعدما أجرى دراسته المشهورة عن قبيلة “الكبابيش” في غرب السودان في ستينات القرن الماضي.(1) ثم تابعه في هذا الاتجاه الدكتور آرجى مافيجي (A. Mafeje) (المفكر الجنوب أفريقي) فشن هجوماً قوياً على” النخب الإفريقية الجديدة” التي تحاول، بحسب قوله، أن تفرض مفهوم القبيلة على مجتمعات ما بعد الاستقلال في إفريقيا، وتتوهم وجوداً موضوعياً للقبيلة في مجتمعات “اختُرِقَت اختراقاً فاعلاً بواسطة الاستعمار الأوروبي، وأُدْرِجت بنجاح تام في اقتصاد النقد الرأسمالي”. وفي تقدير الدكتور مافيجي أن مفهوم “قبيلة” ينبغي أن يُحصر في المجتمعات التي تمارس نظاماً اقتصادياً بدائياً وتعيش في عزلة محلية، “فهناك اختلاف جوهري”، كما يقول، “بين إنسان يكافح نيابةً عن قبيلته ليحافظ على تماسكها واستقلالها، وآخر يستحضر الأيديولوجيا القبلية ليعزز وضعاً سلطوياً، ليس في منطقة قبلية، ولكن في عاصمة البلاد الحديثة، وهدفه الأساسي هو أن يقوّض ويستغل القبلية المفترضة”.(2)
وهذا بتقديري رأى قديم تجاوزه الواقع، إذ لا توجد في عالم اليوم “قبيلة” تعيش في عزلة محلية، وتمارس نظاماً اقتصادياً بدائياً، كما يريدنا الدكتور مافيجي أن نتصور. ما يوجد في الواقع ونراه بالعين هو قبائل عابرة للقارات، ومجموعات قبلية ريفية تتمكن في المدن، وزعماء قبائل يمتلكون الشركات، ويؤثرون على رؤساء الأحزاب وقيادات الدولة الحديثة. ولقد لاحظ وليام شاك (W.A. Shack) وهو يبحث في ظاهرة “القبيلة الحضرية” في إثيوبيا أن الانفصال عن الحياة القبلية في الريف، والاندماج في الحياة الحضرية في المدن الحديثة “لا يضعف الترابط بين أعضاء القبيلة (كما توهم اللبراليون والماركسيون)، وإنما يقوم، على العكس من ذلك، “بتقويتها”. وحتى بعد الإقامة في بيئة حضرية، يضيف شاك، فإن الأفارقة يحافظون على هويتهم القبلية وعلى عضويتهم في مجتمع الريف، وهم دائماً يفكرون بمفاهيم “المنطقة الخلفية”، كما تتجه معظم الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية لأفارقة المدن إلى إنشاء مؤسساتٍ قبلية في المدن وتفعيلها لتُوَظَّف لصيانة العلاقات العشائرية مع القرى الريفية التي يتوقعون التقاعد فيها أخيراً.(3)
وهذا وصف أقرب الى الواقع، ويتطابق إلى درجة ما مع الحالة السودانية، ولكن السؤال الذي ينبغي أن يثار هنا: ما هو “السر” الذي يوجد مثلا في شيوخ قبيلة الكبابيش (أولاد فضل الله) ويجعل الانسان “الكباشي” يلتف حولهم عبر السنين؟ برغم أنه لا يجد لديهم الا الإقصاء البنيوي والتهميش والاستغلال (كما زعم طلال أسد)؟ وإذا شئنا أن نجعل القياس يطرد لقلنا أيضا: وما هو “السر” الذي يوجد في موسى هلال، أو الحلو، أو العمدة ترك، أو منو أركو مناوي، ويجعل هذه القبيلة أو تلك تلتف حولهم؟ وهل يستمد هؤلاء القادة الجدد سلطتهم من الإكراه المادي، أم من الكفاءة العسكرية والرضا السياسي؟ وهل هم شيوخ حقيقيون تتبعهم قبائل، أم هم فصائل سياسية يستخدمون القبيلة كغطاء إيديولوجي، كما يقول مافيجى؟ وإذا أعدنا السؤال بعبارة أخرى: كيف يصير الانسان “زعيما” في السياق الأهلي السوداني؟ وما المصادر الروحية أو الاقتصادية أو العسكرية التي يستمد منها الزعيم قوته؟.