المنظمات وفوبيا التخابر

مهند عوض محمود
تشهد الساحة السودانية هذه الأيام جدلاً واسعاً حول نشاط منظمة برو ميديشن الفرنسية التي كثفت حضورها في بورتسودان منذ فترة عبر برامج تدريبية لكوادر وزارة الخارجية؛ كما امتد نشاطها إلى دارفور وليبيا في مجالات بناء القدرات وتسوية النزاعات؛ هذه المنظمة التي نشأت كإطار مدني للوساطة والحوار، اشتهرت بإقامة ورش ومؤتمرات إقليمية ودولية، من أبرزها الورشة الأخيرة في كوالالمبور التي اجتمع فيها طيف من القوى السياسية السودانية ذات الخلفية الإسلامية، بتمويل مباشر من الحكومة اليابانية، وخرجت ببيان ختامي ركّز على دعم الحوار السوداني – السوداني، وأكد أن استقرار السودان جزء لا يتجزأ من استقرار المنطقة.
منظمة برو ميديشن ليست حالة شاذة، فالمنظمات الدولية كثيراً ما تجد لنفسها موطئ قدم في بؤر النزاعات؛ غير أن السودان تحديداً يعاني من فوبيا التخابر؛ فما أن تلوح بوادر نجاح لأي منظمة إلا وتعلو الأصوات متهِمةً إياها بأنها ذراع من أذرع المخابرات؛ كأنما هناك من يملك قدرة خارقة على التقاط الإشارات قبل أن ترصدها أجهزة الدولة نفسها.
التخابر فن قديم يتجدد بأدوات حديثة، وأحد أبرز أوجهه استغلال المنظمات والمختبرات والهيئات البحثية؛ كمثال، منظمات أنشأت مختبرات أبحاث صحية في مناطق النزاعات بحجة مكافحة الأوبئة، بينما كان الهدف الحقيقي جمع عينات بيولوجية للتعرف على البصمة الجينية للسكان؛ أو مختبرات بيئية تقيم مشاريع لقياس جودة المياه في أفريقيا، بينما تقوم فعلياً برصد الخرائط الجيولوجية لمخزونات المعادن والمياه الجوفية؛ أو مراكز تدريب إعلامي تنشئ ورشاً للشباب في دول مضطربة، بينما تستخرج في الخلفية قواعد بيانات عن الناشطين وشبكات تواصلهم؛ هذه الأنشطة بطبيعتها معقدة ويصعب على العامة كشفها، بل تحتاج إلى أجهزة محترفة تتابعها، ولا يُعقل أن يُفترض أن شخصاً جالساً خلف شاشة هاتف يملك أدوات فضحها بجملة إنشائية.
الواقع أن هذه الأساليب ليست سهلة الرصد حتى بالنسبة للأجهزة المحترفة، وتحتاج إلى متابعة دقيقة واختبارات ميدانية وتحليل للمخرجات؛ فهل يُعقل أن تنكشف أسرار عمليات بهذا التعقيد بمجرد أن يقرر أحدهم على فيسبوك أن يلبس نظارة المؤامرة؟ إن هذا تبسيط مُخل، بل وسذاجة سياسية.
المفارقة المضحكة أن الذين يهاجمون بروميديشن يتجاهلون أن تمويلها جاء من فرنسا والاتحاد الأوروبي واليابان، بل يقفزون مباشرة إلى القول إنها مجرد غطاء للمخابرات الفرنسية؛ فإذاً الحكومة اليابانية التي موّلت ورشة كوالالمبور، حسب هذا المنطق، تدفع أموال دافعي الضرائب لدعم جهاز مخابرات أجنبي! هل هو دعم رسمي أم قرض استخباري بلا فوائد؟ وهل أصبح المواطنون السودانيون أعلم من أجهزة المخابرات اليابانية بوجهات أموال حكومتهم؟ هنا يتحول النقد إلى مادة للتهكم لا للتحليل.
ويبقى السؤال المشروع: لو سلّمنا جدلاً أن المخابرات الفرنسية وراء هذه المنظمة؛ فما هو الهدف؟ هل تسعى للحصول على معلومات سرية لا يعرفها غير السودانيين أنفسهم بينما تقارير الأمم المتحدة متاحة مجاناً على الإنترنت؟ أم أنها تبحث عن أسرار وزارة الخارجية السودانية في قاعة تدريب مفتوحة تُبث أنشطتها في الإعلام؟ أم الغرض لا يتجاوز خلق نفوذ سياسي رمزي يمكن تحقيقه بطرق أسهل بكثير؟ كل الإجابات المحتملة تفضي إلى أن الفرضية أكثر سذاجة من أن تُبنى عليها نظرية كاملة.
المشكلة ليست في برو ميديشن ولا في غيرها، بل في طريقة تعاملنا نحن؛ فبدلاً من أن نستفيد من نشاطات هذه المنظمات تحت الضوء وبعلم مؤسساتنا، نغرق في صخب الاتهامات المجانية؛ ولو جلسنا بعقل بارد، لوجدنا أن وجودها يمكن أن يُستغل لبناء قدرات حقيقية، خصوصاً إذا وضعت تحت عين المخابرات السودانية؛ أما السلوك السوداني المتكرر بأن من دُعي للورشة يراها عملاً عظيماً ومن لم يُدع يعدّها خطراً محدقاً، فهو لا يعكس وعياً وطنياً بل انتهازية مؤسفة؛ والآية تنقلب فوراً: الذين يهاجمون اليوم هم أنفسهم الذين سيغدون غداً مادحين لو وصلتهم بطاقة دعوة مختومة بختم المنظمة.
إن السودان في أمسّ الحاجة اليوم إلى التفريق بين الخطر الحقيقي والوهمي؛ فليس كل منظمة هي غرفة عمليات سرية، وليس كل ورشة هي كمين استخباري؛ النقد مطلوب، لكن بعقلية علمية لا بعصبية عاطفية؛ وإلا فإننا سنظل ندور في حلقة مفرغة من الفوبيا، نخسر فيها فرص الاستفادة من المبادرات الدولية، بينما يربح خصومنا وقتاً ومساحة إضافية؛ والخلاصة أن إدارة هذه الملفات لا تتم بعقلية الفرد الغاضب أو الكاتب المتوجس، بل بعقل دولة تعرف كيف توظف الفرص وتحاصر المخاطر؛ وإذا لم نتعلم هذا الدرس، فستظل المنظمات الدولية بين المطرقة والسندان، وتظل بلادنا رهينة فوبيا التخابر.



