رأي

الملف الكيميائي الأمريكي… تاريخ من الاتهام بلا دليل مختبرات الزيف السياسي: حين تتحول الأدلة العلمية إلى أدوات دمار صامت

 

عبدالعزيز يعقوب

في عالمٍ تتلاشى فيه الحدود بين العلم والسياسة، تصبح المختبرات في أحيان كثيرة أكثر فتكًا من المدافع. حين تُلبّس الأكاذيب لباس الحقيقة، وتُسخّر المعادلات الكيميائية لتبرير القصف والعقوبات، تنقلب الأدوار، ويُصبح العالِم جنديًا، والمختبر قاضيًا، والحقيقة… ضحية.

وفي قلب هذا الانقلاب، تقف الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تكتفِ بامتلاك السلاح، بل امتلكت خطاب السلاح. لم تكتفِ بإنتاج التكنولوجيا، بل هندست معها الروايات التي تُبيح التدخل وتُضفي شرعية على الفوضى. هي من جعلت “المعلومة المختبرية” بوابةً لحروب طاحنة، ومدخلًا لتقارير تحمل أختامًا علمية، لكنها تفوح منها رائحة السياسة، وربما النفط، وربما ما هو أخفى.

أولًا: العراق — الكذبة التي زلزلت المشرق

ذلك الأنبوب الزجاجي الذي لوّح به وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في مجلس الأمن عام 2003، لم يكن سوى رمزًا لانهيار منظومة القيم الدولية. قيل إنه يحمل “دليلًا بيولوجيًا”، لكن ما حمله فعليًا كان رخصةً لغزو العراق تحت شعار “تحرير العراق” .

عُزف اللحن على وتر أسلحة الدمار الشامل، ثم انقشع الغبار لتظهر الحقيقة عارية بشهادة الرئيس الحالي “دونالد ترامب” وآخرين انه لا معامل، لا برامج، لا خطر ولا أسلحة دمار شامل، كانت المعلومات الاستخباراتية زائفة، وبعضها انتُزع من حناجر مرتجفة تحت وطأة سياط التعذيب، وبعضها صيغ في كواليس المصالح، والغرف المغلقة.

لكن أحدًا لم يتوقف. العراق لم يتحرر لكنه تدمر و احترق، ومئات الآلاف الأطفال والأبرياء قضوا نحبهم ، والإقليم زُرعت في أحشائه بذور الفوضى الطائفية، بينما انسحبت أمريكا كما جاءت، دون مساءلة… ودون حتى خجل.

ثانيًا: “السودان”من الشفاء إلى الخرطوم… مسرح متجدد للظلم

في عام 1998، قصفت الطائرات الأمريكية مصنع “الشفاء” في الخرطوم لتغطي علي فضيحة الرئيس الأمريكي الأسبق “بيل كلينتون” و “مونيكا لوينسكي”، بمزاعم إنتاج مصنع الشفاء للأدوية مواداً كيميائية تُستخدم في تصنيع أسلحة بيولوجية. كان الدليل مادة “EMPTA” وُجدت في التربة، متجاهلين عمداً أنها تُستخدم أيضًا في صناعة الأدوية البيطرية.

لم ينتظر أحد التحقيق. المصنع سُوِّي بالأرض، وأُغلقت أبوابٌ كانت تُنتج أدوية منقذة للحياة، خاصة لمرضى الملاريا. مئات الآلاف من الأطفال والنساء والأبرياء تُركوا بلا دواء. وسُجِّل في ذاكرة السودانيين أن أمريكا قد تكذب… وتمضي.

واليوم، يعود المشهد نفسه. في خضم الحرب الدامية ضد مليشيا الدعم السريع، تُتداول مزاعم جديدة عن استخدام الجيش السوداني لأسلحة كيميائية. لا تقارير رسمية، ولا زيارات ميدانية من منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، فقط فيديوهات مضللة، أنتجت في دهاليز الشر والخراب، وشهادات بلا تحقق، تتناقلها قنواتٌ معروفة الارتباط، في محاولة لإعادة فرض العقوبات وتدويل القضية بمنطق أحادي، لا يضع الحقيقة في الميزان، بل يُمليها.

ثالثًا: “ليبيا”نزعٌ خيالي لسلاح لم يُولد،

أعلنت ليبيا في 2003 تخليها عن برامج الدمار الشامل. لكن بعد سقوط النظام، تبيّن أن ما تم تسليمه لم يكن إلا بقايا مشروع بدائي.

ومع ذلك، وجدت أمريكا وحلفاؤها في ذلك ذريعة كافية لقيادة تدخل عسكري عام 2011، تحت شعار “حماية المدنيين”.

سقطت الدولة، وقُتل القذافي، وانفتحت أبواب الجحيم، وخرجت أمريكا… كأن شيئًا لم يكن.

رابعًا: “سوريا”حيث تُصاغ الرواية في دهاليز المختبر

منذ عام 2013، والاتهامات باستخدام السلاح الكيميائي تُلاحق النظام السوري. بعض هذه الادعاءات استند إلى تقارير منقوصة، وبعضها الآخر حُوّر بفعل ضغوط سياسية، كما كشفت تسريبات من داخل منظمة حظر الأسلحة الكيميائية.

ومع كل ضربة أمريكية، كانت الحقيقة تُدفن أعمق، ويُحاصر الشعب السوري بين سندان النظام ومطرقة الاتهام، دون مساحة للحياد أو التحقيق المستقل.

خامسًا: أمريكا الجنوبية — عندما يصبح الاستقلال تهديدًا بيولوجيًا

1. كوبا، منذ التسعينات، متهمة بامتلاك برنامج بيولوجي غامض، رغم نفي الأمم المتحدة.

2. فنزويلا، وُجهت لها اتهامات بقدرات مزدوجة الاستخدام.

3. بوليفيا ونيكاراغوا، نالتا حصتهما من “التحذيرات الأمنية” المختلقة.

لم تكن الاتهامات سوى غطاء لمشروع أوسع اغراضه تحجيم كل من يرفض السير في الركب الأمريكي دون مراعاة للخصوصية والتنوع ، و اضافة الي زرع الشك في كل من يرفع رأسه خارج الحظيرة.

كلمة اخيرة، عندما يتحوّل المختبر إلى ميدان حرب؛ لقد نجحت بعض الدوائر الأمريكية في تحويل الحقيقة العلمية إلى ذريعة للهيمنة. واختُطفت المختبرات من دورها في حماية الإنسانية، لتُصبح محاكم تُصدر “فتاوى الإدانة”، وتبرّر القصف والعقوبات وتفكيك الدول.

لقد حان الوقت لمساءلة عادلة، ليس فقط للأنظمة المتهمة، بل لمن يصنع التهمة، ويُسوّقها، ويضرب باسمها.

فكم من تقرير أُعدّ في مختبرٍ مظلم، وفجّر وطنًا بأكمله؟

وكم من شعبٍ شُرّد، وبلدٍ خُرّب، ومصيرٍ أُعيد تشكيله… فقط لأن هناك من قرر أن الكيمياء باتت سلاحًا سياسيًا؟

التاريخ لا ينسي والضمير العالمي لا يُسامح،— مهما تأخر ا—، والناخب الأمريكي اصبح اكثر وعياً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى