تقارير

السودان بين واشنطن وأبوظبي: استئناف الحوار ومأزق التحالفات

شهد شهر أغسطس الماضي تطوراً لافتاً في مسار الحرب السودانية، بعد اللقاء السري الذي جمع الفريق عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، بكبير مستشاري الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لشؤون أفريقيا، مساعد بُولُص، في زيورخ. اللقاء الذي استمر ثلاث ساعات لم يكن مجرد قناة للتواصل، بل مثّل اختباراً لشروط واشنطن وحدود استعداد الخرطوم للانخراط في تسوية دبلوماسية، في وقت يتعاظم فيه الدور الإماراتي المثير للجدل داخل المشهد.

الإسلاميون.. عقدة واشنطن والبرهان

من أبرز القضايا التي فرضتها الإدارة الأمريكية على الطاولة ملف الإسلاميين المحسوبين على نظام الرئيس السابق عمر البشير. فواشنطن ترى أن عودة هؤلاء عبر المؤسسة العسكرية أو الميليشيات يشكل تهديداً مزدوجاً: أولاً، لإمكانية الانتقال المدني الديمقراطي الذي طالما رفعت شعاره، وثانياً، لجهودها في مكافحة الإرهاب. ولهذا اشترط بُولُص على البرهان إقصاء قيادات عسكرية مرتبطة بالنظام السابق. وبعد أسبوع فقط، أقدمت بورتسودان على إبعاد عشرات الضباط، في خطوة بدت استجابة مباشرة للضغط الأمريكي.

لكن العقدة الأعمق تكمن في الميليشيات الإسلامية، وعلى رأسها ميليشيا “البراء بن مالك”، التي لعبت دوراً محورياً في الهجوم المضاد للحكومة مطلع العام. الغرب يرى في قائدها الشاب، المصباح أبو زيد طلحة، تجسيداً لعودة الإسلاميين عبر قنوات غير رسمية. وبرغم اعتقاله المؤقت في القاهرة، نجحت وساطة بورتسودان في إطلاق سراحه، ما أظهر استمرار النفوذ الخفي لهذه الشبكات.

مشروع الدمج وتوحيد القوات

التزام البرهان بدمج حركات دارفور المسلحة المتحالفة معه – قوات مني مناوي وجبريل إبراهيم – في الجيش القومي، يمثل من جهة محاولة لإعادة هيكلة المشهد العسكري على أسس مركزية، ومن جهة أخرى رسالة طمأنة للغرب بأنه يسيطر على الساحة العسكرية ويمنع تمدد قوى “غير منضبطة”. لكن هذا المشروع الكبير يفتقر حتى الآن لإطار زمني وآليات واضحة، ما يجعله أشبه بتعهد سياسي أكثر من كونه خطة تنفيذية.

واشنطن.. العصا والجزرة

إدارة ترامب بدت مستعدة لإعادة فتح ملف التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب مع السودان، بل وحتى مراجعة بعض العقوبات على البرهان، بما فيها تلك المرتبطة باستخدام أسلحة كيميائية. هذه “الجزرة” تقابلها “عصا” التذكير بأن واشنطن لا تزال تحتفظ بملف انتهاكات الحرب والانتقال الديمقراطي كسيف مسلط على الخرطوم. ومن المتوقع أن يتضح المسار أكثر على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، حيث يشارك البرهان ورئيس الوزراء المدني كامل الطيب إدريس.

مأزق الإمارات وازدواجية الموقف الأمريكي

المعضلة الكبرى تكمن في الموقف من قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي). هذه القوة المدعومة بشكل غير معلن من الإمارات، تمثل بالنسبة لواشنطن طرفاً لا يمكن تجاهله في أي تسوية. لكن إدارة ترامب تفضل إبقاء الاتصالات مع أبوظبي بعيدة عن الإعلام، فيما تواصل الإمارات إنكار أي دعم للدعم السريع أو تدخل في الحرب.

غير أن التوترات بين الشريكين برزت للعلن أواخر يوليو، حين ألغت واشنطن اجتماع “الرباعية حول السودان” (الولايات المتحدة، السعودية، مصر، الإمارات) في اللحظة الأخيرة بسبب خلاف مع أبوظبي حول صياغة البيان. هذه الحادثة كشفت حجم الهوة بين الرؤية الأمريكية التي تميل لاحتواء الطرفين (الجيش والدعم السريع)، وبين الرؤية الإماراتية التي تنخرط عملياً في دعم طرف بعينه، مع ما يحمله ذلك من تبعات على ميدان المعارك ومصير الفاشر ودارفور.

بين الحوار والتصعيد

في المحصلة، استئناف الحوار السوداني-الأمريكي يعكس رغبة واشنطن في إعادة الإمساك بخيوط النزاع السوداني، بعد فترة من التراجع والانشغال. لكنه في الوقت ذاته يضع البرهان أمام امتحان صعب: فإقصاء الإسلاميين ودمج الحركات المسلحة قد يُكسبه شرعية خارجية، لكنه قد يضعف حاضنته الداخلية ويثير انقسامات في الجيش. أما بالنسبة للإمارات، فالمشهد يضعها في مأزق متزايد، إذ بات دعمها غير المعلن لحميدتي عائقاً أمام انسجامها مع واشنطن، في وقت تحاول فيه الأخيرة فرض مسار دبلوماسي جديد.

السودان إذاً يقف عند مفترق طرق: بين ضغوط واشنطن التي تسعى لفرض شروطها، ودور أبوظبي الذي يغذي الحرب ويعقّد فرص التسوية. والنتيجة أن كل جولة دبلوماسية جديدة تبقى مرهونة بمدى قدرة الأطراف على تجاوز هذه المعضلات، في ظل حرب تزداد استنزافاً للمجتمع السوداني والدولة على السواء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى