رأي

“الرباعية”.. لا جديد يُذكر ولا قديم يستحق الذكر

أمواج ناعمة

د. ياسر محجوب الحسين

لم يأتِ بيان اللجنة الرباعية الدولية الأخير الخاصة بالسودان – بزعامة واشنطن وعددا من الدول الإقليمية – بجديد، سوى إعادة صياغة لغة مألوفة عن السودان: سيادة ووحدة أراضيه، لا حل عسكري، ضرورة حماية المدنيين، والحاجة إلى عملية انتقالية “شاملة وشفافة”. وهي عبارات تكررت في عشرات البيانات السابقة منذ اندلاع الحرب، حتى غدت أقرب إلى الطقوس الدبلوماسية منها إلى خطة واقعية قابلة للتنفيذ.

اللافت أن توقيت البيان لم يكن بريئًا. ففي لحظة يحقق فيها الجيش السوداني تقدمًا ميدانيًا ملموسًا ضد مليشيا الدعم السريع، تعود “الرباعية” لتطرح “وقف إطلاق نار عاجل”، و”هدنة إنسانية” لثلاثة أشهر، تمهيدًا لعملية انتقالية جديدة. وكأنها تقول للجيش: انتصر في الميدان، لكن لا تترجم نصرَك إلى شرعية سياسية.

البيان يتبنى سردية السلام المشروط: وقف المعارك أولًا، ثم جلوس الطرفين معا على طاولة واحدة لتشكيل سلطة انتقالية. غير أن هذا الطرح يتجاهل سؤالا جوهريا: هل يمكن بناء سلام عادل دون الاعتراف بمن انتصر ومن انهزم؟ وهل يُعقل مساواة الجيش، وهو مؤسسة الدولة الشرعية، بمليشيا متمردة ارتكبت فظائع موثّقة بحق المدنيين؟

هذا المنطق لا يختلف عن نماذج فُرضت على أكثر من دولة في الإقليم: انتصارات عسكرية تُجمَّد على أبواب “تسوية سياسية”، تعطي للمتمردين موضعا شكليا في السلطة تحت شعار “الشمولية”. النتيجة كانت دائمًا واحدة: إطالة أمد الأزمات بدل حسمها، وإضعاف الدولة بدل ترسيخها.

من يتابع تفاصيل البيان يلاحظ أن الرباعية تعاملت مع مليشيا الدعم السريع طوال الأشهر الماضية كـ”طرف سياسي”، لا كتمرد مسلح خارج على الدولة.

في المقابل، حين أعلن السودان تعيين رئيس وزراء مدني بصلاحيات واسعة – وهو مطلب ظل المجتمع الدولي يردده – لم تكلّف “الرباعية” نفسها بتعليق إيجابي. أي أنها وهي، التي تتحجج دوما بالانتقال المدني، تجاهلت أهم خطوة في هذا الاتجاه، بينما انشغلت بالضغط على الجيش وحده، وكأن المطلوب أن يقاتل وحده، يُحاسب وحده، ثم يُمنع من جني ثمار نصره.

لا خلاف على أن السودان يواجه واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، وأن الملايين بحاجة ماسة للمساعدات. لكن اختزال القضية في “هدنة إنسانية” يخفي حسابات سياسية أعمق. الغرب لا يريد سلامًا يضع حدا للحرب فحسب، بل يريد اتفاقا يحافظ على توازن هشّ بين الدولة والتمرد، خوفا من أن يتحوّل انتصار الجيش إلى عقبة أمام نفوذ خارجي متزايد.

هكذا يصبح “السلام” أداة لإعادة إنتاج الوضع الذي سبق الانفجار: دولة مقيدة، ومليشيات تجد لنفسها موطئ قدم في السلطة، ومجتمع دولي يحتفظ بأوراق ضغطه.

منذ سقوط نظام البشير عام 2019، تشكلت “الرباعية” تحت شعار “دعم الانتقال الديمقراطي”. لكن تجربتها العملية لم تُظهر حرصا على الإرادة الوطنية السودانية بقدر ما عكست مقاربة فوقية، تسعى إلى فرض ترتيبات سياسية صيغت في عواصم الخارج أكثر مما نُسجت داخل الخرطوم.

النتيجة أن الفجوة اتسعت بين الخطاب الدولي الطموح والواقع المحلي المعقد. فبدل دعم خطوات واقعية لبناء مؤسسات الدولة، كرّست “الرباعية” ازدواجية خطيرة: خطاب معادٍ للعنف من جهة، وتسوية سياسية تُساوي بين الدولة والمتمردين صانعي العنف والانتهاكات الإنسانية من جهة أخرى.

إن بيان “الرباعية” الأخير ليس أكثر من إعادة تدوير للمواقف السابقة، بلهجة إنشائية مألوفة، وبحسابات سياسية واضحة: إيقاف اندفاعة الجيش، وإعادة إدماج المتمردين في مشهد سياسي جديد، بدعوى حماية المدنيين وضمان الاستقرار.

لكن التجربة السودانية – كما تجارب الإقليم – تؤكد أن السلام الناقص لا يبني دولة. فالتسويات التي تتجاهل الوقائع الميدانية، وتساوي بين الدولة ومن يعتدي عليها، لا تؤسس لاستقرار، بل لترتيبات هشة سرعان ما تتفجر من جديد.

لذلك، يبقى السؤال مفتوحا: هل المطلوب إطفاء الحرب حقًا، أم ترسيخ ازدواجية الدولة باسم “السلام الشامل”؟ ما لم يُطرح هذا السؤال بصدق، سيظل بيان الرباعية – مثل سابقيه – لا جديد يُذكر ولا قديم يستحق الذكر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى