رأي

الحقائق تغير معادلات السياسة

زين العابدين صالح عبد الرحمن

يقول دستوفسكي (أحيانا الناس لا يريدون سماع الحقيقة لأنهم لا يريدون أوهامهم تتحطم)

إن الأغلبية من قيادات العمل السياسي في دول العالم الثالث التي تعجز عن تحقيق مخططاتها لا تبحث عن الأسباب التي أدت إلى الفشل، خاصة إذا كان الفعل الذي يراد تنفيذه يخالف ما ترفعه من شعارات الفضيلة والحرية والديمقراطية وغيرها من الشعارات التي يسهل ترديدها دون أن تكون هناك كفاءات قادرة على تنزيلها على الأرض.. لذلك تجدهم يلجأوا إلى تغييب الحقيقة عندما يشعروا أن مخططهم قد فشل.. فالذين يبحثون عن شماعة لكي يعلقون عليها أخطائهم.. يشعرون في دواخلهم بحالة الضعف وقلة الكفاءة والخبرة والخوار والهزيمة النفسية التي تدفعهم على التضليل ومحاولة تغييب الحقيقة.. إن الحرب لم تدمر فقط البنية التحتية للبلد، ونهب وسرقة ممتلكات المواطنين والتعدي على أعراضهم وضياع ارواحهم.. ولكنها كشفت استعدادهم للكذب دون تردد ومداراة الحقيقة..

صباح يوم 15 إبريل 2023م كان قائد الميليشيا داخل عربته الحربية بالقرب من القصر الجمهوري يتوعد بقتل واعتقال البرهان وكباشي ومحمد عثمان الحسين وانهم أصبحوا على مرمى فوهات بنادق عناصر الميليشيا، وأكد أنها لحظات وينقضي الأمر وينفض السامر.. كانت الميليشيا تسيطر على كل شيء داخل الخرطوم قبل تفجير الصراع و فشلت في انجاز مهمة الانقلاب.. إذا راجعنا الانقلابات السابقة التي نجحت جميعها سيطرت فقط على ” القيادة العامة وإغلاق الكباري والمطار والسيطرة على الإذاعة والتلفزيون فقط وينجح الانقلاب.. أما الميليشيا كانت تسيطر على كل ذلك و غيرها وأكثر من 80 ألف مقاتل داخل العاصمة وفشل انقلابها، يستغلون أكثر من 4 ألف عربة مجهزة بالمدافع والاسلحة الثقيلة.. و عندما شعرت أنها فشلت، الأمر الذي يؤكد قلة خبرتها وضعف قدراتها العسكرية في التنفيذ، لجأت للكذب بهدف التضليل أن الحركة الإسلامية وراء اشعال الحرب وهي وراء الانقلاب.. البعض يقول أن القيادات العسكرية جميعها تابع للحركة الإسلامية وهي وراء الانقلاب.. إذا كانت هي التي تقبض على مفاصل السلطة لماذا تريد أن تنفذ انقلابا عسكريا على نفسها؟

أن طرد عناصر الميليشيا من مباني الهيئة القومية للإذاعة و التلفزيون وسيطرة الجيش عليها كشفت حقيقة الذي جرى يوم 15 إبريل 2023م، بوجود مستشار الميليشيا يوسف عزت في مباني الهيئة وهو يحمل بيانات كانت معدة سلفا للبث يوم الانقلاب، مما يؤكد حقيقة الذي جرى يوم 15 إبريل 2023م بأنه انقلاب عسكري.. هنا تتغير المعادلة السياسية؛ لآن الانقلاب ليس صنيعة الميليشيا وحدها بل قد تكون شاركتها قيادات سياسية، حتى الآن غير معروف إذا كانت هذه القيادات قد شاركت بقرار فردي منها أو بعلم أحزابها.. إن الحقائق الجديدة تبين القصد من المسعى السياسي.. فإذا كانت القيادات ضالعة في الانقلاب تصبح غير مؤهلة لقيادة عمل سياسي من أجل التحول الديمقراطي، و أن عملية تزييف الحقائق تجعلها غير نزيهة ولا تملك الشفافية التي تجعل الآخرين يثقون فيها، فكل المواقف بنيت بأن الحرب طلقات أطلقتها عناصر إسلامية تابعة لعلى كرتي، رغم أن السبب الرئيس هو إنقلاب عسكري من قبل الميليشيا، و أن تغير المعلومات يؤدي إلي تغيير في كلية الفكرة السابقة..

إن حالة الاستقطاب الحادة في الشارع السياسي؛ والتي كانت جارية منذ سقوط الإنقاذ في 11 إبريل 2019م، كانت لا تقف على معلومات حقيقية، كلها حالة غضب تنبني عليها شعارات يمليها فعل وردة فعل غيب الكثير من الحقائق، فأصبح العقل عاجزاً أن يجاري ضخ من المعلومات التي لا تسندها أي حقائق على الأرض فقط أن تكون مع أو ضد.. الآن بدأت تتكشف الحقائق بأن الذي جرى هو انقلاب عسكري.. وأول الخيط بالضرورة يقود إلة آخره، لآن أغلبية الشعب يريدون معرفة الحقائق مجردة، وبعيدة عن التبريرات التي غدت ثقافة عامة للقوى السياسية جميعها..

والذي دائماً أكرره في المقالات، أن كثرة الشعارات في الساحة السياسية تعتبر دليل ضعف وفقر ثقافي ومعرفي في المؤسسات الحزبية، لآن عملية التغيير تحتاج إلى فكر يقود عملية التحول الديمقراطي لكي يخلق حوارا فكريا بين جميع التيارات الفكرية، حتى يرسخ لمبدأ أحترام الرأي والرأي الآخر، وفي نفس الوقت ينتج ثقافة ديمقراطية تنداح على الثقافة الشمولية المتراكمة من جراء استمرارية النظم السياسية الشمولية لعقود في البلاد، فالقوى السياسية إذا كانت شحيحة في إنتاج الثقافة الديمقراطية داخل مؤسساتها وفي تعاملها مع الآخر، لا تستطيع أن تكون جديرة بقيادة عملية التحول الديمقراطي.. فالديمقراطية لا تؤسس على تزييف المعلومات، وعلى شعارات تعلم القيادات قبل غيرها إنها لا تملك القدرة على تنزيلها على الأرض، أن أغلبية القوى السياسية فقيرة الإنتاج الثقافي والمعرفي والفكري..

إن فئة واسعة من المثقفين والإعلاميين بنت قناعتها على الذي يدور في الساحة السياسية من معلومات الميليشيا وإدعاءاتها الكاذبة، وهي غير مستعدة أن تغير هذه القناعة لأنها لم تتعود طوال تاريخها أن تراجع نفسها أو تمارس المنهج النقدي، الكل يعشق منهج التبرير لأنه يعلق الخطأ على شماعات وليس على الأفراد الذين ارتكبوا الأخطاء. ومهما تكشفت الحقائق سيظل الكل يكابر، هذه الثقافة ستظل قائمة وتؤدي مستقبلا إلى فشل أي مشروع سياسي يمكن أن ينهض بالبلاد.. ” لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” فالتغيير والبعد عن التبرير وحده هو الذي يغير معادلات السياسة ويؤدي لثقافة جديدة في المجتمع.. كل واحد أو تنظيم يجب أن يعلم أنه يملك جزءً من الحقيقة التي يملك الآخر جزءها المتبقي.. نسأل الله حسن البصيرة..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى