الحرب النفسية في قبضة الكيان… حين تُدار المعركة في الوعي قبل السلاح

عبدالعزيز يعقوب
في كلّ معركة تُخاض، لا تكون البنادق وحدها هي التي تحسم المصير، بل الوعي الشعبي. فالمعارك التي تُدار في الساحات، تبدأ أولًا في الأذهان. وإن كانت الجيوش تُهيَّأ للميدان، فإن الشعوب تُهيَّأ للنصر أو الهزيمة من خلال ما يُضَخّ في وعيها، وما يُبنى أو يُهدم في ذاكرتها الجمعية. ومن هنا، تفهم إسرائيل جيدًا أن الحرب النفسية ليست مجرّد أداة رديفة للسلاح، بل هي المقدمة اللازمة لكسر إرادة الخصم، وتطويع عقله، قبل جسده.
منذ اللحظة الأولى لتأسيسها، على أنقاض النكبة الفلسطينية، لم يقتصر مشروع الكيان الصهيوني على اغتصاب الأرض، بل شمل اغتصاب الرواية، وتشويه التاريخ، وبثّ الرهبة في نفوس العرب والمسلمين، لا لإخافتهم من السلاح، بل لإقناعهم بعدم جدوى المقاومة الخاسرة.
لقد استثمرت إسرائيل، ومن خلفها قوى الغرب الاستعماري، في سردية الضحية التي تنهض من الرماد، وصوّرت نفسها ككيان صغير محاط بالأعداء المتوحشين، بينما كانت تمارس أبشع أنماط الاستعلاء العنصري، وتُشيّد أركان احتلالها على ركام قرى مهجّرة ، ومجازر الأطفال والأبرياء المسكوت عنها. هذه ليست تفاصيل عرضية، بل جزءٌ من استراتيجية طويلة المدى، تستند إلى بناء “هيبة وسطوة وقوة وهمية” لجيش لا يُقهر، ودولة لا تُمس، ومظلومية لا تُناقش.
وقد جاء الإعلام، والاستخبارات، ومراكز الأبحاث، لتكريس هذه الصورة، ليس فقط في الغرب، بل في أذهان العرب أنفسهم. فكلما فشلت الأنظمة في هزيمة الاحتلال، تعمّقت في وجدان الشعوب فكرة أن إسرائيل كيان لا يُهزم، وأن كل مقاومة هي مغامرة خاسرة. وهذا بالضبط هو جوهر الحرب النفسية: أن تُقنع خصمك بأن الهزيمة قدر يلاحقه ، وأن الانكسار مخرج امن وان الاستلام للقدرية الصهيونية هو خيار عاقل.
لم تكن إيران بمنأى عن هذه الحرب المركّبة. فقد بدأت عمليات التسلل الإسرائيلي منذ زمن الشاه في العمق، واستمرّت بعد الثورة، عبر اختراقات نوعية لأجهزة الأمن والجيش وقادة المجتمع، واغتيالات منظمة لعلماء، وتخريب للمفاعلات النووية. هذه العمليات لم تكن لمجرد شلّ القدرة التقنية، بل كانت رسائل علنية موجهة لداخل إيران وخارجها “نحن نرى، ونسمع ونخترق، ونضرب متى نشاء كيف نشاء”. إنها هندسة صناعة الخوف، والرهبة، وتحطيم المعنويات، وشل الإرادة.
وفي فلسطين، يُمارَس القمع اليومي كأداة نفسية اقتحام البيوت فجراً، اعتقال الأطفال، تجريف الأشجار، قصف منازل العائلات، بثّ طنين الطائرات المسيّرة على مدار الساعة، استخدام أشكال العقاب الجماعي لترسيخ فكرة أن “الاحتلال لا يُقاوَم”، وأن “الحياة ممكنة فقط بالتطبيع أو الاستسلام”.
أما أخطر أدوات هذه الحرب، فهي تلك التي لا تحمل شعار “إسرائيل”، بل تظهر في هيئة وجوه عربية، تروّج للهزيمة باعتبارها “واقعية سياسية”، وتُسوّق الخضوع باعتباره “حكمة” و”تدرجًا في السلام”. هؤلاء الساسة، والمثقفون، ورجال المال والمرجفون ، هم الجبهة الناعمة لحرب قذرة، تُخاض في صمت، وتُدار في غرف الأخبار، ومناهج التعليم، وشاشات الترفيه.
ومن أشهر نماذج الحرب النفسية التي تُمارسها دولة الكيان:
اولاً: الاغتيالات الرمزية: ليس فقط إزهاق أرواح القادة، بل اغتيال صورتهم في وعي الجماهير. حين يُقتل أبو جهاد، أو إسماعيل هنية، أو يحيي السنوار، فالهدف ليس إيقاف مشروع، بل زراعة فكرة أن أي مقاوم سيكون مصيره التصفية، مهما بلغت حمايته.
ثانياً: عمليات الردع العلني المصور: تصوير الغارات بدقة عالية، وبثها لاحقًا، ليس للتوثيق، بل لترويع من يشاهد، ولإحباط من يفكر بالمواجهة.
ثالثاً: تسريب الشائعات والشروخ الداخلية: بث أخبار عن انشقاقات، خيانات، قادة هاربين… إنها محاولة لهدم الجبهة الداخلية، وزعزعة الثقة بين الشعب والمقاومة.
رابعاً: اختراق اللغة الإعلامية: حين يُستبدل “الاحتلال” بـ”النزاع”، و”المجزرة” بـ”الاشتباكات”، تُطمَس الرواية، ويضيع دم الضحية بين مفردات محايدة. وهذا أخطر من الرصاصة.
خامساً: إعادة إنتاج مفهوم “الهزيمة الواقعية”أن تُربَّى الأجيال على أن الصراع عبثي، وأن الكيان الصهيوني حقيقة راسخة، وأن الشعوب منهكة، والسلام -بأي ثمن- هو السبيل الوحيد للحياة.
في مواجهة هذا كله، لا يكفي أن نملك السلاح، بل لا بد أن نملك الرواية، والثقة، والذاكرة. فالعدو لا يسعى لقتلنا فقط، بل لقتل الفكرة فينا. يسعى لأن نكفّ عن الحلم، وأن نُسلم بحكمه كقدرٍ لا مفرّ منه.
لكن الأمم لا تنهزم حين تُحتل أرضها، بل حين يُخترق وعيها. والمقاومة الحقّة تبدأ من الداخل، من اللغة، من الفن، من التعليم، من صورة الشهيد في الذاكرة، ومن الأم التي تزرع في ابنها أن الاحتلال غريب، وأن العدالة ليست مستحيلة.
الحرب النفسية لا تُخاض بالصواريخ، بل تُخاض بالمعنى.
ومن يمتلك المعنى… لا يُقهر.