رأي

الجيش 1985: الإسلام أم السحر؟ 

 

عبد الله علي إبراهيم

مقدمة:

يجد القارئ أدناه كلمة نشرتها عام 1997 ضمن مقال طويل بعنوان “السودانيون الشماليون ونهاية السياسة: حساب الخطوة الأخيرة” ضمنتها كتابي “الإرهاق الخلاق”. وأردت بالكلمة التي أنشرها هنا استثارة حوار حول “أسلمة الجيش” في عصر الإنقاذ. فقد رأيت المعارضة الرسمية جانحة إلى الاحتجاج عليها كخطة كيزانية شريرة. وبالطبع خرج الإسلاميون لأسلمة المجتمع بأسره في برنامجهم المشروع لأوبة الدين للدولة إلا أن يستعينوا عليه بعنف الدولة. وأردت بكلمتي إلى إدامة النظر إلى ما بعد الاحتجاج نحو فهم لأسلمة الجيش (بل سائر المجتمع) قد يسوقنا إلى أنه ربما جاءت جزئياً أو كلياً عن نازع باطني في المجتمع يخرجه من أنه مجرد “احتيال كيزاني” إلى معان أدق في روح الناس وتفاكيرهم في المعاش والمعاد. ولا أعرف إن قرأ المعارضون هذه الكلمة ناهيك من نقاش مسألتها كمسألة مستحقة. ف”عادة المعارضة” حرمتهم من نعمة المعرفة طالما كان ديدنهم التفكير بأقدامهم احتجاجاً. وأعيد نشرها في مناسبة كلمتي أمس عن سبق نظام نميري لأسلمة الجيش في نوبة من نوبات تشبثه بالسلطان. ويبقى السؤال: لماذا احتاج للدين؟ وكيف ساغ له؟

 

يحمل المعارضون على الجبهة القومية الإسلامية طبعها حرب الجنوب بطابع الجهاد وشحن اداء ورموز الجيش المفروض فيه القومية بمفردة ثقافية وحيدة دون غيرها من زخم المفردات المتنوعة الاخرى في الوطن. غير منكور ان الجبهة القومية الإسلامية سعت سعيا حثيثاً للتأثير على القوات المسلحة ويكفي أن من بين شهادات العقيد محمد الامين خليفة المعلنة في ترجمته يوم وقع انقلاب 1989 دبلوم حصل عليه من المركز الإسلامي الافريقي في شأن من شئون العقيدة والفقه. ولست الجبهة بنشاز في هذا. فقد سعت صفوات أخرى كثيرة لمد الجسور الطائفية والفكرية للقوات المسلحة، بل ولتعيين كادرها الملتزم في المدارس الثانوية في القوات المسلحة عبر الكلية الحربية.

ولكن الأهم من ذك في التحليل الثقافي للجهاد في القوات المسلحة ان نتأمل المحنة التي لمحت إليها آنفاً: وهي كساد الوطن بينما المطلوب من القوات المسلحة ان تحمي بيضته ويصح ان نتساءل إزاء هذه المحنة تسني القوات المسلحة، مصنع الموت والشهادة، أن تؤدي وظيفتها ملاقية ربها من أجل وطن بائخ؟

على سلامة القول بأن الجبهة القومية الإسلامية قد طبعت القوات المسلحة بطابع الجهاد إلا انه من المفيد أيضاً تأمل قابلية هذه القوات للأسلمة في ملابسات الامر الازلي “قريب من العبث” لها بالحرب للذود عن بيضة وطن مبني على المجهول. لقد رأيت أناساً من جيلي ومن جيل تلانا هربوا بشهاداتهم العليا التي مولها السودان إلى بقاع في الدنيا طيرها عجمي بزعم أن الوطن الشريد المختلف في أمره لا يستحق رجالا في مثل رجاحتهم، فكيف نطلب من القوات المسلحة رجالا ونساء ان تنشد الموت من اجل نفس الوطن. ما لكم كيف تحكمون؟

القوات المسلحة: النهج الإسلامي، لماذا؟

نحتاج الى فتح فكري مناسب بشأن أسلمة القوات المسلحة. ويؤسفني ان تكون السبيل إلى هذا كتاب “الطريق إلى بور” للعميد الطيب محمد خير، وزير الاعلام في نظام البشير. فالرجل مختلف عليه جداً كما لا يخفى وأحسبه ربما ندم أنه استخدم “السيخ” في الاعتداء على معارضيه خلال دراسته الجامعية حتى سمي بـ “الطيب سيخة” بينما يملك مثل هذا البيان الطيب. فلو قرأت الكتاب بغير اشتباه كمرجع نادر عن باطن حرب الجنوب، أنصرف أكثره إلى الرواية لا التحليل، لبدا لك أن الإسلام ربما كان أفضل ما حدث للقوات المسلحة في ملابسات القرار الازلي “العبثي” لها بحرب الجنوب. فقد كان خيار الجنود إما السحر أو الإسلام. فمن الوقائع التي ذكرها الكاتب، الذي شارك كممثل للسلاح الطبي في حملة بور في مايو 1985، تلمس أنه في غيبة الفكرة العسكرية الوطنية الملهمة شاع بين الجنود ارتداء الحجاب الواقي من الرصاص، والاستئناس بـ “التليفزيون البشري” الذي يجلب المعلومات كفاحاً عن العدو، والكجور (اسم للإمام في عقائد جبال النوبة السودانية) الذي يفسد المطر لكيلا يصب في مسار الحملة. وكانت ممارسة هذا السحر علامة ممارسة مدغومة في الاداء الرسمي للحملة. فالتليفزيون البشري مثلا كان عريفا بالحملة.

تجدد “السحر” على هذا النطاق في ملابسات كساد الدولة الأفريقية المستقلة باب مثير في البحث الأنثروبولوجي. وهو، في أفضل النظرات البحثية، ليس عوداً على بدء فلكلوري أو أفريقي وثني، كما يقول البعض، أو خرافات جاهلية كما أوصى منصور خالد، وإنما هي نبت بيئة دولة ما بعد الاستعمار ومستودع أكثر توتراتها وفقر مواردها وخيالها ووجدانها وابطالها ووعدها. وينشط الباحثون بخاصة من المدرسة الفرنسية وعلم الاجتماع في دراسة سياسات السحر وسحر السياسة الأفريقية. وكمسلم فأني اعتقد أن جيشا محصناً بالإسلام لهو أفضل عندي من جيش يتعاطى السحر ويركن إليه. فإذا كان البديل لجيش محاصر مجهول هو السحر، فإسلامه أوقع وأشفى.

الهمجــية أو الإسلام:

وكان القوات المسلحة بإزاء خيار آخر، الهمجية أو الإسلام.، فقد جاء في الكتاب أن بعض المحققين والمستجوبين من القوات المسلحة اجتمعوا على أسير متهم بالانتماء إلى جيش العقيد قرنق، وساموه الخسف، وأوسعوه الأذى حتى أدموه وقاربوا موته، والرجل صامت صمت الجبال، فالتمس منهم دكتور الطيب أن يقتلوه لأن الإسلام لا يحل تعذيب الأسير (ولم يمنع ذلك بالطبع النظام الذي ينتمي إليه الكاتب حالياً من تعذيب معتقليه السياسيين). ولكن وهذه قصة أخرى استرجعت في ذاكرتي ما روي عن تعذيب الشفيع احمد الشيخ، الزعيم النقابي الذي شنق في 1971 بواسطة قادة عسكريين مثل ابو القاسم محمد إبراهيم حتى حمل جثة هامدة إلى المشنقة. وقدرت أن ممارسات حرب الجنوب لابد لها أن تعدي الوطن كله فلا مناجاة. فالمقابر المجهولة التي تضم رفات رجال في قامة محمود محمد طه وعبدالخالق محجوب ومحمد صالح عمر ووليم دينق بواسطة ضباط وجنود من القوات المسلحة لتذكرنا بأن “همجية” حرب الجنوب قد أضحت علماً من علوم الميدان وعلوم السياسة.

غاية القول هنا ان لا نستثمر التظلم المشروع من تحول الحرب في الجنوب عن جادة الحرب الوطنية إلى الحرب الجهادية بصرف هذا التحول كمجرد حيلة ماكرة ميكافيلية من حيل الشيخ حسن الترابي. فالأدنى إلى الحق أن تتأمل قوى المعارضة، التي وطنت نفسها على هزيمة القوات المسلحة، نفسها قليلاً أو طويلاً في مرآة هذه القوات المسلحة التي أثقلتها بحرب من أفقر الحروب وأطولها فتخبطت خبط عشواء بين الوطن والسحر والدين.

فقد تنقلت أكثر القوى السياسية الجلابية بين كراسي الحكم التي حتمت عليها متابعة الحرب وبين وحشة المعارضة التي الزمتها بالدعوة إلى السلم، أو نقض السلم الذي يتم بغير واسطتها. وهذا من نهاية السياسة ولا تثريب. ولكن في حين تغيرت مصائر القادة الجلابة بين الحكم والمعارضة، ظلت القوات المسلحة في عمق الوغى مشهداً للموت المؤسسي، تعالج أمر محنتها بسبل شتى وبتوفيق متفاوت. وصح عندي أن نراجع معرفتنا لهذه المؤسسة قبل أن نقرر حربها وهزيمتها. فالجهل أبعد الحيل عن النصر والمعرفة قوة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى