د.ايناس محمد أحمد
ما ترتكبه مليشيا الدعم السريع من جرائم بحق المدنيين العزل لا يمكن وصفه إلا بأنه جرائم مستمرة تلاحق بعضها بعضاً وتفاقم من الوضع الإنساني للمدنيين العزل ، جرائم ستظل وصمة عار على جبين كل من أيدهم أو شاركهم أو حرضهم أو عاونهم أو سكت عما يقومون به.
فمنذ اندلاع الحرب في صباح السبت 15 أبريل 2023، ذلك التاريخ الذي يحمل ذكرى أصعب وأسوأ حرب تمر على الشعب السوداني في تاريخه ، هذه الحرب الملعونة أفرزت عدداُ من جرائم الحرب و جرائم ضد الإنسانية ، جرائم مستمرة ، ضحاياها شيوخ ونساء وأطفال السودان .
من أخطر هذه الجرائم الاختفاء القسري ، حيث اعتقلت المليشيا آلاف من المدنيين في معتقلاتها و يُحرم ذووهم من أبسط حقوقهم في معرفة مصير أبنائهم ، ولا يعرفون إن كانوا أحياء أم أمواتا ، ولا يملكون أية معلومة عن ظروف احتجازهم أو مكان اعتقالهم.
يروي الناجون من تلك المعتقلات ما تمارسه المليشيا من أشد أنواع التعذيب والإهانة والمعاملة اللاإنسانية وسوء التغذية وتجويع المعتقلين وانعدام الرعاية الصحية ، وإن أعداداً منهم لقوا حتفهم فعليا بالتجويع وسوء التغذية ونتيجة التعذيب الممنهج.
وذكر شهود عيان أن المليشيا تحتجز شيوخا ونساء وأطفالا يقدر عددهم بالآلاف ، وفي بعض الحالات تبتز أهلهم بسداد فدية مالية باهظة مع التهديد بقتل المحتجزين حال لم يتم سداد المال ، وهناك من يخضعون للاختفاء القسري وهذا شكل آخر من أشكال الاعتقال يستخدم كاستراتيجية لبث الخوف والهلع داخل المجتمع وترويع المدنيين وتمتد آثار الاختفاء القسري على الضحايا وذويهم ، ويقصد بالاختفاء القسري الحجز أو الاعتقال أو الخطف أو الحرمان من الحرية بأي شكل كان وإخفاء مصير الشخص المختفي، أو مكان وجوده ، أو أي معلومات عنه.
وحتى ينطبق وصف الاختفاء القسري لابد من توافر ثلاث نقاط :-
1/ حرمان الشخص من الحرية تحت أي مسمى..
2/ وجود جهة مسؤولة من هذا الاختفاء .
3/ رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصيره أو مكان وجوده أو أي معلومة عنه.
كيف عرف العالم الاختفاء القسري
يذكر التاريخ أن (ادولف هتلر) هو أول من ابتكر جريمة الاختفاء القسري ، وكان ذلك بموجب مرسوم أطلق عليه إسم ( الليل والضباب) صدر في 7 ديسمبر 1941م ، استهدف به الناشطين المعارضين له خلال الحرب العالمية الثانية.
ويذكر أن المشير (فيلهم كاتيل) في ألمانيا هو الشخص الذي أدين بسبب دوره في تطبيق مرسوم هتلر واعتبر مجرم حرب لارتكابه جريمة الاختفاء القسري.
كانت اللجنة الأميركية لحقوق الإنسان ، ولجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أول هيئة دولية لحقوق الإنسان تتصدى لظاهرة الاختفاء القسري في أعقاب الشكاوى المقدمة من ضحايا من دولة شيلي إبان الانقلاب العسكري في 11 سبتمبر 1973م ، في تلك الفترة كان فريق العمل التابع للأمم المتحدة يحقق في قضية (الفونس رينية شانقرو) وهو من أصل فرنسي اعتقل من منزله في سانتاغو دي شيلي في يوليو 1974م.
في العام 1977م تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة حالات الاختفاء القسري في قرارها 118/ 32 ، وصادف ذلك أن (أدولف بيريز اسكيفل) الفائز بجائزة نوبل قد وجه نداء دولياً يدعم فيه الحكومة الفرنسية التي حصلت على رد من الجمعية العامة في شكل قرار رقم 173/ 33 المؤرخ في 20 ديسمبر 1978م ، والذي أشار علي وجه التحديد إلى المفقودين بالاختفاء القسري وطلب من لجنة حقوق الإنسان تقديم توصيات في هذا الشأن.
في 6 مارس 1979م أجازت اللجنة تعيين خبيرين هما ( فيليكس ارماكورا، ووليد السعدي) لدراسة حالات الاختفاء القسري في دولة تشيلي وأصدروا تقريرا في 21 نوفمبر 1979م أصبح هذا التقرير مرجعية حول المسألة القانونية لجريمة الاختفاء القسري ، و قد أخذت الأمم المتحدة من توصيات هذا التقرير مقترح تشكيل فريق العمل المعني بحالات الاختفاء القسري ، والذي كان له دور فاعل في إنشاء اتفاقية خاصة لمكافحة الاختفاء القسري فيما بعد.
في فبراير 1980م أنشأت الأمم المتحدة الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري وهو أول آلية موضوعية لحقوق الإنسان تابعة للأمم المتحدة تنشأ بموجب ولاية دولية، وتتمثل مهمته في مساعدة الأسر للوصول لتحديد مصير ومكان وجود الضحايا والتواصل معهم.
ثم اعتمدت الأمم المتحدة في قرارها رقم 47 / 133 بتاريخ 18 ديسمبر 1992م الإعلان المتعلق بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري عبر الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري ( WGEID) والذي يعمل بموجب الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة و يتضمن مجموعة مبادئ واجبة التطبيق على جميع الدول ، وأوضح أن الاختفاء القسري يتحقق حين يتم القبض علي أشخاص واحتجازهم او اختطافهم رغما عنهم واخفائهم وحرمانهم من حريتهم وبذلك ينتهك الاختفاء القسري عدة حقوق هي :-
1/ حق الفرد في الحرية والسلامة الشخصية دون وجه حق .
2/ التعرض للتعذيب والضرب المبرح والمعاملة اللاإنسانية.
3/ يحرم من الحق في الحياة ، لأنه يكون عرضة للموت نتيجة التعذيب أو التجويع أو عدم وجود الرعاية الصحية وسوء التغذية.
4/ الحق في معرفة سبب الاعتقال أو الاحتجاز وكذلك الحق في محاكمة عادلة.
5/ الحق في الإنصاف وجبر الضرر والتعويض .
6/ الحق في الرعاية الصحية .
7/ تنتهك الأعراض ، فقد يتعرض الشخص للاعتداءات الجنسية أو الاغتصاب.
وفي 20 ديسمبر 2006م، نص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على اعتبار جريمة الاختفاء القسري ، جريمة ضد الإنسانية تخالف القانون الدولي الانساني وقانون حقوق الإنسان إذا تمت بطرق ممنهجة مستمرة وعلى نطاق واسع.
ويجمع خبراء القانون الدولي أن الاختفاء القسري ينتهك عدداً من الصكوك الدولية يمكن حصرها في الآتي:
1/ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 م.
2/ ميثاق الأمم المتحدة 1945م .
3/ اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة اللاإنسانية أو العقوبة القاسية أو المهينة 1984م ، والبرتوكول الاختياري لها 2002م ، والمبادئ المتعلقة بالتقصي والتوثيق بشأن التعذيب 2002م .
4/ اتفاقية القضاء على جميع أشكال التميز ضد المرأة 1979م .
5/ اتفاقية حقوق الطفل 1989م .
6/ المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز او السجن للعام 1988م .
7/ القواعد الدنيا لمعاملة السجناء للعام 1955م.
8/ الإعلان الدولي المتعلق بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري للعام 1992م.
9/ الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري للعام 2006م .
10/ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية للعام 1966م.
دور الصليب الأحمر
اعتبر المؤتمر الدولي الرابع والعشرون للصليب الأحمر للعام 1981م أن الاختفاء القسري يتضمن انتهاكات لحقوق الإنسان الأساسية كالحق في الحياة والحق في الحرية والحق في السلامة الشخصية والحق في عدم التعرض للتعذيب والمعاملة القاسية والاإنسانية او المهينة للكرامة والحق في محاكمة عادلة.
ثم جاء المؤتمر الخامس والعشرون للصليب الأحمر عام 1986م والذي قرر إجراءات اعتمدت لاحقاً في المؤتمر السابع والعشرين للصليب الأحمر عام 1999م وأعطت أوامر صارمة لمنع جميع الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الانساني بالتركيز علي الاختفاء القسري وتم اعتماد القرارات بالإجماع من الدول الأعضاء.
الجريمة المستمرة
يعد الاختفاء القسري جريمة مستمرة يبدأ الفعل بالاحتجاز أو الخطف والحرمان من الحرية ثم إخفاء المعلومات عن أهلهم، ثم التعرض للتعذيب والضرب والمعاملة المهينة أو اللاإنسانية وسوء التغذية والتجويع وسوء الرعاية الصحية بالإضافة للاعتداءات الجنسية والاغتصاب.
وتستمر هذه الأفعال وهي كلها مجرمة في القانون الدولي والقانون الدولي الانساني وقانون حقوق الإنسان.
الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري للعام 2006م
اعتمدت هذه الاتفاقية في العام 2006م ، ودخلت حيز التنفيذ في 23 ديسمبر 2010م ، وتم إنشاء اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري وتتعاون مع الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري ويكون الأخير هو صلة الوصل بين أسر الضحايا والجهات التي تستخدم الاختفاء القسري حتي يتم الوصول إلى الضحايا أو أماكن تواجدهم أو تحديد مصيرهم ، ويتعاون الفريق العامل مع الآليات الإقليمية لحقوق الإنسان مثل لجنة ومحكمة البلدان الأميركية المعنية بحقوق الإنسان ، واللجنة الأفريقية المعنية بحقوق الإنسان والشعوب ، ومع الهيئات الإقليمية الأوربية المعنية بحقوق الإنسان ، ويتعاون أيضا مع بعثات تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة ، ومع لجان التحقيق ، والمحكمة الجنائية الدولية ، كما يتعاون مع الآليات الوطنية التي تحقق في حالات الاختفاء القسري.
ويحتفل العالم في 30 من أغسطس من كل عام باليوم العالمي لمكافحة جريمة الاختفاء القسري ، وهو اليوم الذي حددته الأمم المتحدة استجابة لمبادرة جهة غير حكومية تأسست في كوستاريكا عام 1988م أطلقها (اتحاد روابط أقرباء المعتقلين المختفين قسرياً في أمريكا اللاتينية) ومنذ ذلك التأريخ قامت هيئات حقوقية في عدد من دول العالم برصد جرائم الاختفاء القسري التي تطال المدنيين وتقدم الجناة للمحاكمة.
وقد صادق السودان على الاتفاقية الدولية للحماية من الاختفاء القسري للعام 2006 وكذلك اتفاقية مناهضة التعذيب والعقوبة القاسية للعام 1984م، في فبراير 2021 وكان قد وافق عليها في أكتوبر 2020م.
ونجد أن المشرع السوداني أشار في مادة 3/27 من دستور السودان الانتقالي للعام 2005 ” ينظم التشريع الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا القانون ولا ينقص من أي من هذه الحقوق ”
كما تنص مادة 1/161 ، مادة 162 ،ومادة 164، ومادة 165 من القانون الجنائي السوداني 1991م على تجريم فعل الاختطاف والحجز غير المشروع والاعتقال غير المشروع إلا أنه لا يحتوي على نص صريح بشأن الاختفاء القسري.
وتنص المواد 77، 81 ، 83 من قانون الإجراءات الجنائية 1991وهي تجرم الاحتجاز السري وتوفر مستوى معين من الحماية للمعتقلين.
لكن و بعد المصادقة علي الاتفاقية أصبح المشرع السوداني يعاقب علي ارتكاب جريمة الاختفاء القسري سواء كان بالمشاركة أو التواطؤ أو التحريض أو الموافقة أو القبول أو إعطاء الأوامر ويجرم المسؤولية القيادية ، وهذا الأمر مهم لاسيما فيما يتعلق بالمسؤولية الجنائية للأشخاص الذين يحتلون مواقع قيادية ، مع ملاحظة أنه قد يشترك عدد من الجناة في الجريمة ولكن ليس بالضرورة ان يكونوا كلهم مطلعين علي مكان وجود الضحايا.
ولا يوجد في المعاهدات الدولية ما يشير إلى أن أوامر الرؤساء يمكن أن تشكل ظرفاً مخففاً للعقوبة، ولا يجوز التزرع بأية أوامر أو تعليمات من أية سلطة مدنية أو عسكرية أو غيرها لتبرير جريمة الاختفاء القسري.
لا يستفيد المجرم فيها من العفو العام أو التدابير المماثلة، ولا يسقط حق الضحايا بالتقادم ، ولا يسقط حق الأسر والضحايا في طلب التعويض ومعرفة الحقيقة الكاملة للاختفاء.
نجد أن الفريق العامل في تقريره للعام 1994م (E,CN.4/1994/26) أشار إلى عدم الإفلات من العقاب تحت أي ظرف ، ولا يستفاد من العفو العام سواء كانت الدولة تصنف الجريمة جريمة ضد الإنسانية أم لا، وسواء كانت الدولة طرفاً في الاتفاقية أم لا.
وحرصاً علي عدم الإفلات من العقاب فإن التشريعات الوطنية (ومنها القانون السوداني) تقضي بأن تطبق مبدأ الولاية القضائية العالمية وكذلك مبدأ إما التسليم وإما المحاكمة أو الأثنين معا ، وذلك حتى تتمكن الدول من محاكمة من يكون على أراضيها من المتهمين ، وحتى لا يفلت المجرم من العقوبة ، وتطالب الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري من كل دولة طرف يوجد في إقليمها شخص يشتبه أنه مدان في جريمة الاختفاء القسري أن تحتجزه وتتخذ كافة التدابير القانونية وتسليمه للمحاكمة.
و الغريب في الأمر أننا نجد المليشيا المتمردة ترتكب الاختفاء القسري بشهادة المنظمات التي ترصد أفعال وجرائم المليشيا في عدد من معتقلاتهم التي تنتشر في أماكن سيطرتهم وبشهادة شهود عيان من الناجين الذين يروون المآسي والآلام لمن كانوا معهم ، وكيف يعيشون ، والأمر لا يحتاج لأدلة ، لأن أفراد المليشيا أنفسهم يوثقون لجرائمهم وينشرونها عبر الميديا للعالم أجمع ، فهم لا يعرفون قانونا ولا دينا ولا عرفا ولا اخلاقا ولا أي شئ من عادات وتقاليد وأعراف السودانيين السمحة ، ورغم ذلك لم يصنفها العالم كجماعة ارهابية حتي الآن !!!!
لكن يظل هذا الملف الانساني مفتوحا ويظل الاختفاء القسري جريمة مستمرة ضد الإنسانية تحمل المعاناة والألم للضحية وأهله ومجتمعه والضمير الإنساني .
اللهم أنصر القوات المسلحة نصرا عزيزا ، سبحانك لا ناصر لنا إلا أنت